يقول تودوروف: "يظل الكاتب مغمورا حتّى يكتب الرواية". إنّ هذه الصورة النمطية التي رسمها جمهور النقّاد باعتبار أنّ الرواية هي أمّ القصّة القصيرة وجدّة القصّة القصيرة جدّا، قد جمع البيض في سلّة واحدة، وظلم نوعا ما الصنعة السردية داخل القصّ، سواء في الأقصوصة أو القصّة القصيرة جدّا.
لكن جاءت جمعية الأنصار للثقافة بمدينة خنيفرة الأدبية لتقطع مع هذا التمشّي، الذي كاد يأخذ بعدا قداسيا، لتنتصر للقصّة القصيرة والقصّة القصيرة جدّا، باعتبارهما نافذتين للسرد الحديث نحو المستقبل. وفي هذا الإطار يأتي المهرجان العربي للقصّة القصيرة جدّا بمدينة خنيفرة المغربية، والذي يعقد كلّ سنة تحت شعارات مختلفة انتصرت جميعها للمدرسة القصصية، محاولة إرجاع نبضها السرديّ والنهوض بها أشواطا، كما جاء على لسان عزيز ملوكي، رئيس جمعية الأنصار للثقافة، حيث قال، إثر جلسة القراءات الشبابية التي تراوحت بين القصّة القصيرة والقصّة القصيرة جدّا، "إنّ الشباب هم مستقبل الإبداع العربي ولا بدّ من الاحتفاء بهم ودعمهم وتسليط الضوء على نتاجاتهم الكتابية".
وقد عرفت القراءات بروز جيل شابّ ويافع من الكتّاب والقصّاصين الذين يبشّرون بمستقبل إبداعي متميّز، على غرار محمد الهدّار وصفاء ملوكي وحسناء آية الحسن وندى الحجّاري… وغيرهم من ثلّة مبدعة نالت رضى أسماء بارزة مثل الناقد والروائي الكبير محمد أمنصور. إنّ الأقصوصة هي مستقبل السرد العربي وستنحت لنفسها بابا كبيرا تلج منه، وهذا ليس كلاما انطباعيا أو مقاربة أنطولوجية تقوم على ما يشبه النبوءة الفكرية، بل هي محصّلة دراسات عميقة ومحدّدة بإطار حجاجي بحت. فلا يختلف اثنان في كون عصرنا هذا هو عصر السرعة، إذ أصبح الإنسان منّا يتوجّه نحو محاصصة الوقت والسعي الدؤوب نحو فعل الأمر في أقلّ وقت ممكن.
القارئ إنسان لا يمكنه الخروج من بعديه الزماني والمكاني، ولهذا سيصطبغ بصبغة المحيط، وعلى ضوء هذا سيعمد بطبيعة التغيّرات السيكولوجية إلى قراءة النتاجات الأصغر حجما. ولا نفشي سرّا حين نقول إنّ الرواية قد وجدت حرجا إبستمولوجيا في إعادة تموقعها داخل المشهد السردي بصفة عامة، فصارت تجترح لنفسها مصطلحات جديدة على غرار "النوفيلا" أو الرواية القصيرة… ولكن هذا كلّه سيعجّل بتصدّر الأقصوصة والقصّة القصيرة جدّا للمشهد السردي داخل العالم الأدبي.

وفي معرض حديثنا عن المستقبل الأدبي، قال حسن البطران، رئيس اتحاد السرد العربي لـ"صحيفة اليوم الكويتية" إنّ "الإبداع ليست له مساحة أو إطار محدد، وأنا أقرأ في أجناس القصة وأهوى الشعر والرواية، ولكني أكتب القصة القصيرة جدا لأني أرى فيها أدب المستقبل، وهذا لا يعني أنها تنفي الأجناس الأدبية الأخرى لأن لكل جنس منهم متعته".
إن اتّجاه المهرجان العربي للقصّة القصيرة جدّا بخنيفرة نحو تبنّي مشروع القصّ كواجهة سردية مستقبلية لم يكن وليد اللحظة، بل توجّها متكاملا بين مختلف الجوانب المراقبة من كتّاب ونقّاد وقرّاء. غير بعيد عن هذا يقول الناقد الأدبي الدكتور حسين حمودة "خلال العقود الثلاثة الماضية، تصاعدت أشكال قصصية مثلت اختبارا لحدود النوع القصصي القصير، وذهبت في ذلك مذاهب شتى، تمثلت خلالها القصة القصيرة لغة الشعر وأدواته، أو استلهمت روح الأمثولة أو الخاطرة أو اللوحة القصصية… إلخ ، وتمّ طرح نتاج قصصي جديد، فرض نفسه فانتبه إليه النقاد، وبدأوا يبحثون عن تسميات مناسبة له، وعن سمات أساسية في تكوينه.
وخوض هذه الأشكال القصصية الجديدة قد بدأ في الأدبين العربي والغربي في فترات شبه متقاربة، يردها أغلب الباحثين إلى العقود القليلة الأخيرة الماضية. وانتشر في العقود الثلاثة الماضية شكل القصة القصيرة جدا، انتشارا ملحوظا في عدد من البلدان العربية، وكان قد انتشر انتشارا واسعا في الأدب المكتوب بالإنجليزية قبل ذلك بوقت قصير.
وعلى هذا الرهان دافع مريدو الأقصوصة والقصّة القصيرة جدّا، على أنّ الرواية هي الابنة الشرعية للقصّة القصيرة وليس العكس، فقد يحدث أن يكون الابن أكبر حجما من والديه، بل الأصل في الخلق أن يكون الابن أكبر حجما. قد يخلد بذهن البعض أنّ في طرحنا هذا شيئا من التعصّب للقصّة القصيرة، لكن رئيس المنتدى العربي علي الدوعاجي للفكر والأدب القاص الكبير عماد عبد الكريم يقول، في هذا الإطار، "أنا أميل دائما لتنسيب الأمور، لكن أسبقية الرواية على القصّة القصيرة هي أسبقية تاريخية، لكن أسبقية القصّة القصيرة فكرية بامتياز، ولهذا سيكون المستقبل للقصّ القصير بامتياز.
لقد كان المهرجان العربي بخنيفرة في دورته السابعة وتحت شعار القصّة القصيرة جدّا والنشر الرقمي فرصة أخرى للدفع بالرؤية التوليدية لمصطلح المستقبل الأدبي، ولعلّ ميل القرّاء إلى قراءة الأصغر حجما من نتاجات الكتّاب قد دفع بالنقّاد إلى إعادة حساباتهم وترتيب الأوراق على الطاولة. ولعلّ الناقد محمد العمراني قد قال في هذا الإطار "إنّ المستقبل سيكون للقصّ القصير لسببين: سبب كرونولوجي متعلّق بعدم جنوح الناس للقراءة المطوّلة، وسبب ثان إستيتيقي هو جمالية أثر الفراشة في إشارة إلى القصّة القصيرة جدّا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
إعلان