هكذا، بعد أن قطعت أشواطا كبيرة داخل المنزل تخرج لكسب لقمتها خارجه في حلقة تتكرر كل يوم دون ما ملل. تغادر منزلها صباحا مع غنيماتها القليلة بعد أن ترسل أبناءها إلى المدرسة، فالرعي لبعض السويعات يوميا ضروري لأنه سيخفض تكلفة علف لا طاقة لها بتحمل نفقاته.
في الطريق تكابد ليظل القطيع مجتمعا، تركض خلفه هنا وهناك لكي لا يُفسد مزروعات الغير. تنتقل ونعاجها في طرق صغيرة ملتوية على هيأة شريط دقيق لا يكاد يصلح لأن يكون طريقا بشريا. أتبعها والدوار قد نال مني وأنا أحاول أن أسير خلفها في هذه الممرات الضيقة المنحدرة. تنزلق قدمي من حين إلى آخر فأرى كيف تهوي التربة في مكان سحيق. أرتجف من الداخل وأنا أفكر في مصيري لو هويت أنا أيضا. أجيل بصري فأرى المرأة تجاوزتني، وأنا ما عاد لي طاقة على اللحاق بها. أجلس القرفصاء محاولة التأكد من موضع قدمي كي لا أنزلق. أشعر بأن قلبي يرتجف في داخلي. أواصل جر الخطى بحذر، فيما تمضي هي سريعا كالرمح وهي تحمل رضيعها فوق ظهرها وقربة ماء في يدها وبعض لوازم العمل في الأرض. لقد صارت متمرسة وما عادت المرتفعات تصيبها بالدوار بقدر متطلبات الحياة.

هكذا، وما إن تصل حتى تبدأ العمل الذي يدور ودورة الحياة، فشتاء تنشغل في جني الزيتون وحرث الأرض، وربيعا تشتغل في صيانتها، ثم في جني محاصيلها، من عدس وفول وبازلاء صيفا. فكل شيء هنا يدوي ولا مكان للآلة؛ لتنتقل لجمع الحطب خريفا استعداد لشتاء قاس لا يرحم.
بعد عودتها إلى المنزل مساء، يكون التعب قد نال منها، لكن يومها لم ينته بعد، فمازال عليها تلبية احتياجات أسرتها التي تراكمت طيلة فترة غيابها عن البيت. تسابق الزمن لتوفر بعض السويعات كي تخلد فيها للراحة استعدادا ليوم جديد.. هكذا يكون يومها حافلا دون أن تملك وقتا لنفسها. تعمل كآلة دون توقف، متحدية قسوة الحياة وكلها أمل في غد أفضل لأبنائها، فوحده الأمل يمنحها القدرة على الاستمرار.
ويا له من نعيم تحمد الله عليه في كل وقت وحين ما دامت في صحة وعافية، فهناك إن مرِضتَ لا طبيب ولا دواء إلا من بعض الأعشاب التي تجود بها الأرض وبعض العسل إن توفر. لكن استعمالها يقتصر على نزلات البرد وضربات الشمس، أما المعاناة الحقيقية فتبدأ عندما يكون المرض مزمنا أو عندما تكون هناك حالة ولادة صعبة تستدعي تدخلا طبيا مستعجلا، فلا هي تستطيع التنقل لكيلومترات حتى تصل إلى أقرب تجمع سكاني تتوفر فيه وسيلة نقل ولا حتى تقدر على البقاء مكانها مجازفة بحياتها وحياة مولودها.
هناك، حيث المغرب العميق، يُحمل المرضى على الأكتاف كما يحمل الأموات وتتنقل امرأة وهي في عز المخاض أميالا وهي تعتصر ألما دونما مبالاة من أحد إلا من جارة أو اثنتين آثرتا مرافقتها وعدم تركها لوحدها. فما أصعب ما تعانيه النسوة هناك وما أقسى الأخبار التي نسمعها من حين إلى آخر بين حالة توفيت في الطريق وأخرى أنجبت مولودها بين أشجار التين والزيتون.. مشهد كان سيكون مألوفا إن تعلق الأمر بقطة برية لا غير، لكنْ عندما يتعلق الأمر بحياة البشر فهو يجبرك على طرح أسئلة كثيرة.
إنه ليحزّ في النفس أن يرى الواحد منا مثل هذه المشاهد، وكأننا متخلفون عن العالم بعقود وعن الإنسانية بأشواط، وأن التقدم لم ينل إلا من أخلاقنا ولم يكن له انعكاس إيجابي على ازدهار حياتنا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.