مع العسكر لا شيء يبدو كما يبدو في إعلامهم وروايتهم للأحداث، فليس ثمة زنازين كالفنادق وليس ثمة طعام آدمي يُصرَف للمُعتَقَل كل يوم، وليس هناك أية حقوق تُمنح للمُعتَقَل في ما يخص الزيارات والطعام وساعات الراحة وكل ما ينص عليه القانون. لا يوجد إلا "الحرمان"، ذاك الشعور الذي يعيشه المُعتَقَل بكل ما تحمله الكلمة من وَحشَه وقلّة حيلة؛ فإن كان طالباً فهو محروم من دخول الكُتب والذهاب إلى الاختبارات، وإن كان مريضاً فممنوع من حقه في النقل إلى المستشفي أو وصول الدواء.

حين تقرأ رسائل المُعتَقَلين تشعر وكأنك في جنازة حقيقة وبأن شيئاً عظيما مات داخلك وأنك -بطريقة ما- سببٌ في ألم هذا المُعتقل ولا تخلو يدك من وِزر دمه إن مات.. تخنقك العَبرة وأنت تسمع استغاثة أمّه وأبيه أن افعلوا شيئاً قبل أن يُقال مات. وسرعان ما يتذكران "إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم وإن سمعوا ما استجابوا لكم".
سيصيبك الرُعب ويتسارع نبضك، بل ويختل وزن قلبك وأنت تطالع صور المعتقلين بعد أن مَضت الأيام والأشهر، بل السنون وقد تغيرت ملامحهم ووهن العَظم منهم واشتعلت رؤوسهم شيبا؛ فتذكر حينها صيحة ياسين الحاج صالح، طالب الطب السوري في روايته بـ"الخلاص يا شباب" أنْ "ليس هناك قطع غيار لهذا العمر؛ الواحد منا لا يكون شاباً مرتين، لا يمر بسن الحادية والعشرين والخامسة والعشرين والثلاثين، وما فيها من صبوات وشعور بالذات وجاهة وحماقة، إلا مرة واحدة؛ وهذه المرة سرقها السجن من مئات وألوف ومني "كم من الألوف في مصر سُلِبَت أعمارهم دون أي جريرة اقترفوها، هؤلاء الطلبة رهن الاعتقال مكانهم الطبيعي الآن مقاعد الدراسة لا أقبية السجون. مَن الذي سيدفع لهم عمراً كتعويض عن سنوات حبسهم، إن سَلّمنا جدلاً أنه من الممكن حدوث ذلك؟
"المُعتقلون"، تلك الكلمة التي ما عادت غريبه بيننا ولم تعد سبقاً صحافياً لفرط ما اعتدنا سماعها، كل شيء عنهم صار مألوفاً كأنه عادة. اعتدنا الفاجعة حدّ البلادة. الرقم لم يعد يعني لنا الكثير والحُكم القضائي بـ"المؤبد أو الإعدام" أصبح بالجُملة، حتى حقهم في أن يكونوا رقماً صحيحاُ لم تمحنهم ياه السُلطة في تقاريرها.

ليس هذا فقط، بل ما أشبه اليوم بالبارحة.. مُحاكمات عسكرية لا ترقب في مؤمن إلاّ ولا ذِمَة، بدايةً بقضية "عرب شركس" اعتقال ثم ترحيل إلى السجن (مقبرة العقرب) دون عرض على النيابة، ثم حُكم بالإعدام وتنفيذ الحُكم شنقاً حتى الموت رغم عدم كفاية الأدلة.. إلى قضية " استاد كفر الشيخ"، التي لم تنجح الأصوات التي تعالت عربياً وأفريقياً في وقف حُكم الإعدام حتى إعادة النظر في القضية. غير أن زبانية الحاكم العسكري قرروا، على حين غرّة وقبل أن يطلع الصباح، أن يزهقوا أرواح أربعة شباب كانوا نزلاء سجن "مقبرة برج العرب".
كم مرّة سيموت المُعتَقَل داخل زنزانته قبل أن يغادرها؟! هل تعرف معني أن تفتح عينيك وتغمضهما كل يوم على أشخاص يُهانون ويُقادون إلى التعذيب وإلى أعواد المشانق؟! أن يخبرك أحدهم بأنه سيتم تنفيذ حكم الإعدام في حقك غداً، سنقوم بخنق أنفاسك حتى يتوقف قلبك عن العمل؟! مَن يضمن لهؤلاء المُعتقلين محاكَمَة عادلة؟! مَن يستطيع أن يوقف تنفيذ حُكم الإعدام، الذي يبدو أنه سيستمر في ظل وجود المحاكمات العسكرية وقُضاة تحرّكهم الرغبة القوية في الانتقام ومحاولة إخفاء الفشل الذي طال النظام السياسي من رأسه إلى أخمص قدميه؟.. فلا شيء يمكن أن يخسره مَن تُعَري جسده بالكامل؟ وما الذي تَبَقي عليه كي ينزعه؟!
أيّا كان الحُكم القضائي، فهو قابل للإيقاف والتصحيح، أمّا حكم الإعدام متي نُفّذ فقد انتهى الأمر، فالأخطاء التي تُرتَكَب لا يمكن تداركها، والحكم غير قابل للرد والمراجعة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.