هذه الثقافة، المشوّهة للأسف، أصبحت من المسلّمات لدى الكثير، حتى من المثقفين وأصحاب الرأي. حتى من تجربتنا في بلدان الربيع العربي، عندما ذهب حكام وأتى آخرون لم يتغير سوى الشكل والاسم ولكن المضمون هو ذاته، فما زال الظلم الممارس في تونس واليمن ومصر والمناطق المحررة من سوريا شاهداً على هذا النهج. إن الظلم الممارس على الشعوب لابدّ له من وعي وتحرك جمعي حتى يُزال من بينهم، والوعي المطلوب هو الوعي بحق الجميع في الحياة وممارسة نشاطاتهم وأفكارهم التي لا تخالف الفطرة، والعمل على إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقه وعدم التحزب والتقوقع ضمن أيديولوجيات ضيقة تخنق أصحابها بالمستقبل، الوعي بأنّ هذا الوطن للجميع، وللجميع دورٌ في بنائه وعمرانه وتقدّمه، الوعي بأنّ القائد الملهم الهمام الأسطورة المجدّد المتفرد الفاتح ليس له وجود بيننا، بل القائد من يعمل مع الجميع ويشاركهم ويعيش آمالهم وآلامهم.
وقد جاء في القرآن الكريم توجيه عظيم من الله سبحانه وتعالى: "إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)" سورة الحج. وهذا الإذن بالتحرك ضدَّ الظُّلم ومواجهته، يعقبه ضمانٌ من الله لنصره وتأييده، ولكن ما بال السوريين لم يُنصروا رغم تحركهم ضد الظلم؟ وجواب ذلك واضح للعيان: إن التحرك ضدّ الظلم لابد أن يكون من غير ظلم كذلك، فكان توجيه الله سبحانه في آياتٍ لاحقة: "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)" سورة الحج. فلا يكفي أن تكون ضدَّ الظلم وأنت على حق، بل يجب عليك أن تمارس هذا الحق بحقٍ وعدلٍ، وللأسف هذا ما فشل به الكثير، فزيف السلطة ولمعان المال وعزّ الجاه أعْمَ أعين الكثير عن العدل والحق رغم أنهم من خرجوا نصرة له وطلبا لإحقاقه.
وإن عدنا للنموذج السوري، نجد أن الثوّار ظلموا أنفسهم بأن تفرقوا فرقاً وجماعات وأحزابا ومارسوا الظلم بينهم واقتتلوا حتى ذهبت ريحهم، وللأسف بعد أن كانوا أصحاب الحق ومن وقف في وجه ظلم الأسد ونظامه، وهذه هي سنة الله الباقية، لا نصر لمظلومٍ إن مارس الظلم في طلبه لحقه. وإن أراد السوريون الخروج من هذا البلاء عليهم أولاً أن يعدلوا بينهم ويتنازلوا عن مسمياتهم وأحزابهم وجماعاتهم لصالح الجميع ولتكون القضية من جديد هي ثورة بحق ضدّ الظلم والظالمين. عندما تنازل بعض الثوّار عن أسماء فصائلهم واجتمعوا تحت شعارٍ واحد أطلقوا عليه "بأنّهم ظُلموا" وخاضوا معركة في الغوطة الشرقية بريف دمشق، وذلك في شهر كانون الأول/ديسمبر من العام 2017م، باتجاه أعتى حصون نظام الأسد والتي تسمى "إدارة المركبات".
حيث كانت منصة لإطلاق الصواريخ والراجمات تجاه المدنيين في غوطة دمشق وكانت كابوساً عليهم، ومارس من خلالها الأسد كل أنواع الظلم على أهل الغوطة، فتح الله على الثوّار هذا الحصن المنيع وتمكنوا من تحريره بصدقهم وعدلهم، وكانت البشرى ترتسم على وجوه المحاصرين والدعاء يلهج من قلوب المكلومين في الغوطة. نعم هو نموذج مصغّر ولكن فيه العبرة، وأختم حديثي هنا: عندما نكون على حق ونثور ضدّ الظلم مطالبين بهذا الحق، لِتكُن ممارساتنا بحق وعدلٍ كذلك. "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)" سورة المائدة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.