لا إِنكارَ أَنَّ الأَرضَ شَاهِدَةٌ على حالِةِ نُموٍّ مِنْ صَنيعِ الإنْسِ هِي الأَعلَى عَبْرَ الزمانِ في مَسارِ السُلَّم البَيانيِّ، دُونَ تحديدٍ لفئةٍ مُعَيَّنةٍ أو تَصْنِيفٍ أُمَمِيٍّ ما بَينَ مُتقدِّمٍ ومُتَخَلِّفٍ، ولَكِنَّ هذا الكَمَّ الهائِلِ لا يُمْكِنُ احْتِسَابُهُ سِوى تحتَ المُسمَّى المَادِّيّ الفَاقِدِ إلى المَبادِئِ القِيَمِيَة، فالمَادَّةُ اليومَ هِيَ الصِّفَةُ الغَالِبَةُ على كَافَّةِ الأهدافِ والأحداثِ الجارِيَةِ في التَعَامُلِ ما بَينَ البَشَرِ دُونَ امْتِثالٍ جَلِيٍّ لقِيٍمٍ ضَابِطَةٍ للسُلُوكِ البَشَريِّ.
إِنَّ الإنسانَ مخلوقٌ مَربُوبٌ ولَا بُدَّ لَهُ أنْ يَعْرِفَ خَالِقَهُ وماذا يُرِيدُ منهُ، ولِهذا كانَ مِنَ الحِكْمَةِ البالغةِ أَنْ يَبعثَ اللهُ رُسُلاً بَينَ الفَيْنَةِ والأُخرى، لتقويمِ الاعْوِجاجِ وتصحيحِ خُطاهُ على الدَّرْبِ، ولِتَنْمِيَةِ التَدَيُّنِ الّذي فُطِرَ عليه، ويَرتقِي عَمَّا سِوَاهُ مِنَ المخلوقاتِ، وأَنْ لا تَكُونَ حَياتُهُ عبارةً عن إِدْرَاكٍ حِسّيٍّ يستطيعُ التميِيزَ بينَ بَصَلَةٍ فِي سَلَّةِ تُفَّاح أو تُفَّاحَةٍ في سَلَّةِ بَصَلٍ فَقَط، بَلْ عَليهِ التَفَكُّرُ أنَّها حالةٌ شاذَّةٌ يجبُ إصلاحُهَا، فإنَّ للحيوانِ مَقدِرَةٌ على الإحساسِ بمَا حَوْلَه ولكِنَّه لا يستطيعُ التميِيزَ بينَ الشاذِّ والسّليمِ.

لَمْ يَسْبِقْ فِي سِيَرِ السّابِقِينَ أَنَّ رَسُولاً جَاءَ مُعَلِّمَاً للنَّاسِ كَيفيَةَ بناءٍ أو جَاءَ في زَمَنٍ لا تَفقَهُ النُّاسُ فِيهِ سِوى معيشةَ الحَيوَانِ، بَلِ الوظيفةُ كانتْ التقْوِيمَ والإصلاحَ ليَنْتُجَ التمامُ، ضِمْنَ مَنظُومَةٍ مُعيَّنةٍ ومَنهجٍ مُشَرَّعٍ مِنَ اللهِ، فبعضُ الأقَاويلِ تُشِيرُ إلى أَنَّ الحضارَةَ في زَمنِ عيسى كانتْ شاهِدَةً على تَقَدُّمٍ عِلْمِيٍّ في الطبِّ لا مَثِيلَ لَهُ، و لِذَلِكَ كَانَ إِعْجَازُهُ فِي إِحْيَاءِ المَوتَى وإِبْرَاءِ الأَكْمَهِ والأَبْرَصِ، و فِي زَمَنِ فِرعَوْنَ كَانَتِ الحَضَارَةُ فِي العِمْرَانِ وإِتْقَانِ السِحرِ، فَجَاءَهُم مُوسَى بِعَصا أَعْجَزَتِ السَّحَرَةَ وأَدْخَلَتِ الإِيمَانَ إلى قَلبِهِم، وفِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ كَانَت بَلَاغَةُ اللُّغَةِ هِي الأَطْغَى بَيْنَ النَّاسِ، فَأُنِزلَ القُرآنُ مُصَدِّقَاً لِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّ اللهِ ومُتَحَدِّياً لِلعَرَبِ، كما أنَّه تضمَّنَ ما ارْتَضَاهُ اللهُ مَنهَجَاً للنَّاسِ أَجْمَع، ودُسْتُوراً ضَابِطاً لِآلِيَّةِ التَّعَامُلِ، ومُنَاسِبا لِكُلِّ زَمَانٍ ومَكَانٍ ومُعَرِّفَاً باللهِ وما اخْتَارَهُ مِن خَلقِ سُلالَةِ آدَم.
زَمَنُ الوَحيِ والإعجازِ قَد قضَى نَحْبَهُ، وحَاجَةُ الإِنسانَ اليَومَ للوَعيِ لا للوَحيِ لِيُدرِكَ أَنَّ الأرض -رُغْمَ تَحَضُّرِهَا- مُحْتَكِمَةٌ لشَرِيعَةِ الغَابِ، وأنَّنا فِي زَمَنٍ يَعْمَلُ فيهِ الإِنْسَانُ لإِرْضَاءِ إنسانٍ، ومَنْ يَبْحَثُ فِي التَّاريخِ يَرَى أَنَّ تَدَافُعُ النَّاسِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللهِ لِإِشْرَاقَةِ مُنْقِذٍ -شَخْصا كانَ أَمْ جَمَاعَةً- لِتَقْويمِ مَفَاهِيمِ النَّاسِ وإِعَادَتِهِم للتعَاليمِ التي أنزَلَهَا اللهُ، فَيَسْتَيقِنُ الباحِثُ أنَّ الإنسانَ هُوَ المَالِكُ لمَفَاتِحِ الأَرْضِ إِنْ أَنْصَفَ رُشْدَ عَقْلِهِ مَعَ إِيمَانَ قَلبِهِ، وأَحْكَمَ فِكْرَهُ لِيَكُوِّنَ مِن نَفْسِهِ مَنَارَةً يُسْتَنَارُ بِهَا لِإتْمَامِ الوَظِيفةِ التي وُجِدَ لَهَا وكُرِّمَ بِهَا.
ومَا مِنْ نُبُوءَةٍ إلّا أَتَتْ فِي وَقتِهَا الأَنسَبِ المُختَارِ مِنَ اللهِ تَعَالى بِحِكْمَتِهِ ومَعرِفَتِهِ، ولَرُبَّمَا كَانَتْ دَوَاعِي النُّبُوءَةِ مَوجُودَةً فِي وَقْتِنَا وكُنَّا فِي أَشَدِّ الأَوقَاتِ حاجَةً لهَا، ولَا أظُنُّنِي مُخْطِئَاً إِنْ قُلْتُ إنَّنا أَحوَج مِن ذِي قَبْلِ، ولكِنَّ وَظِيفَةَ الرُّسِلِ قَد أُتِمَّتْ وانتَهَت بِوضْع دُسْتُورٍ مُرْتَضى مِنَ اللهِ ومَحْفُوظ مِنَ الاسْتِبْدَالِ والتَحْرِيفِ، مِمَّا يُبطِلُ الحاجَةَ إلى مُجَدِّدِ للتَعالِيمِ بِحُجِّةِ اختلافِ الزمانِ وتطوّرِ أساليبِ الحياةِ، فمَا مِنْ دَعوَةٍ قَدْ حَدَّتْ مِن إِبْدَاعِ العَقْلِ وأَلْزَمَتْهُ نِطَاقَاً مُحَدَّدَاً، بَلْ استِهدَافُهَا كَانَ لِلسُلُوكِ ومَنَاهِجِ النَّاسِ فِي الدنيَا لِيُثَابُوا بِقُبُولِ اللهِ فِي الآخِرَة .
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.