لن أتحدث عن فوائد طباعة الكتب والمطبوعات الرديئة، لأنها تساعد في زيادة حجم روابط وجمعيات واتحادات الكتّاب العربية، وبالتالي تضخُّمها، لأنها في الحقيقة تضخمت وترهلت بما فيه الكفاية، وأصبحت مثل ملعقة العسل في برميل ماء، ولا لأذكر أنها ضرورية لستْر أحوال كثير من عمال المطابع، وأصحابها، لأنها في الحقيقة تُعري هذا الكوكب الصغير، والجميل حقًا، مما تبقى له من أشجار وأكسجين، مع معرفتي أيضا، أن العلم استطاع أن يبتكر ما يساعدنا على صناعة ورق بديل من ورق تالف وموادّ أخرى.
لن أتحدث عن الصحف الكثيرة جدًا، التي أغلقت؛ لأن كثيرا منها لم تكن تنشر في حياتنا سوى ثاني أُكسيد الكربون، بسمومها وتدنّي مستواها، وتعميمها للتعصب والفقر المعرفي والإنساني والجهل، لأننا نحزن أيضا على صحف رائعة أُغلقت، ومجلات رائدة نوعية لم يعد لها وجود في حياتنا، بعد أن كانت معيارا أساسيا لمستوى الكتابة، وبساطا طائرا لانتشار أسماء من يكتبون فيها.
كانت الكتابات المتواضعة دافعا للكثيرين، لكي يبحثوا عن كتب أخرى، ويكتشفوا أن عليهم أن يصعدوا درجة أرقى، مع كتّاب آخرين يتحدث عنهم أصدقاؤهم الذين قطعوا أشواطًا أبعد في القراءة |
أتحدث عن كتب رديئة فعلا، أو متوسطة الرداءة، ولكنها كُتبت في مرحلة ما، عن زمن ما، وكتبها أناس مخلصون، مضيئون، ولكنهم لم يكونوا من أصحاب المواهب الكتابية العالية، لكن حرصهم التاريخي، الوطني، الإنساني، الاجتماعي…، دفعهم لكتابة شهاداتهم، ورغم أن المستوى الكتابي لهم متواضع، إلا أنه يساعدنا، بطريقة كبيرة، على أن نطلّ على الفترات التي تناولوها وقالوا كلمتهم فيها، سواء عبر يومياتهم، أو مذكراتهم، أو مشاهداتهم، أو محاولتهم لقراءة ما كان يدور حولهم من أحداث.
هؤلاء، مرجع لا يمكن الاستغناء عنه من قبل الباحثين والكتاب الجيدين، لأن المادة الخام التي تركوها لنا، ستظل مصدرا يُستندُ إليه لكتابة أعمال ذات مستوى جيد، إن لم يكن رفيعا. ولذا يحق لنا أن نطالب كل أولئك الأنقياء الذي عاشوا تجارب كبيرة، وعبروا سنوات تحوّلات فاصلة محطاتُها، ألا يترددوا، وأن يكتبوا، مهما كانت قدرتهم على الكتابة متواضعة.
النوع الثاني من الكتابة المتواضعة، هي تلك النصوص الأدبية، بشكل خاص، والتي لا يمكن إدراجها ضمن تاريخ الكتابة، أو تاريخ النوع الكتابي الذي تنتمي إليه: رواية، بشكل خاص، لكنها استطاعت أن تكون من محركات القراءة القويّة لدى قطاعات عريضة من الناس، وقد ظهر عدد غير قليل من هذه النصوص في الربع قرن الأخير، كما ظهر قبله بالتأكيد، لكن فضيلة هذه الكتب قائمة في قدرتها على إنعاش جو القراءة، وتوسيع رقعة القراءة، وتزايد عدد القرّاء.
هذه الكتب، كانت دافعا للكثيرين، لكي يبحثوا عن كتب أخرى، وكتّاب آخرين، إما لأنهم استمتعوا بهذه الكتب، ولو ترفيهًا، وإما لأنهم باتوا يسمعون أسماء أخرى تتردد أمامهم كلما أعلنوا أنهم قرؤوا هذا الكتاب أو ذاك، واكتشفوا أن عليهم أن يصعدوا درجة أرقى، مع كتّاب آخرين يتحدث عنهم أصدقاؤهم الذين قطعوا أشواطًا أبعد في القراءة، أو امتلكوا وعيا أكثر أصالة في عملية اختيارهم ما يقرؤون.
ولعل بعض هذه الروايات أيضا، يمكن أن تكون مستقبلا، أشبه بمراجع لكتابات أهمّ، بما فيها من وقائع ومشاهدات وتفصيلات حياتية، لأن كثيرا منها يُضمر في داخله مسودّات أولية، يمكن أن تتطوّر، فهي لا تفتقد المعرفة، ولا تفتقد الصدق، ولا الإحاطة بالموضوع، لكنها تعاني من عدم وجود المستوى الأدبي، وتفتقر للخيال، والقدرة على الاستبصار، أو اشتقاق رؤية عميقة من أحداثها الكثيرة، وبالتالي بقيت في إطار الحكايات البسيطة، وأحيانا الخراريف.
لا تشجّع هذه الكلمات على اقتراف الرداءة، وعلى ضرورتها ثقافيًّا، ولكنها تشجع الناس على أن لا يخافوا من الكتابة، إذا ما امتلكوا، حقًا، تجربة وضميرًا وقوة ملاحظة وحرصًا على أي شيء جميل في هذا العالم، لأن الكتابة مخيفة حتى لمن هو ضالع فيها، ولذا قد يتهرب ويؤجِّل، ويدّعي التأني، والحاجة إلى بحث أعمق، فما بَالُكم بمن لم يكتب من قبل، ويرى في الكتّاب كائنات من نوع آخر؟!
هؤلاء الذين يخافون من الكتابة، قد يعطوننا أشياء كثيرة نجهلها، ولو كان ذلك عبر كتبهم المتواضعة أحيانا، المتوسطة أحيانا، وقد يفاجئوننا، كما سيفاجئون أنفسهم، بأنهم كتاب فعلا، لكننا لم نكن نعرف هذا ولا هم يعرفون!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.