شعار قسم مدونات

بولندا قَدَرُ تَبَعِيَّةٍ كالعرب.. لكن مع خاتمة نجاح أوروبية

BLOGS بولندا

1- من واجباتِ الحياة الأكاديمية في الغرب أنَّ الجامعات تشترطُ على أساذتها الباحثين إلقاءَ بحثٍ في مؤتمر أو اثنين سنويًّا، لكن من محاسن هذا؛ أن تنوُّعَ المؤتمرات يُتيحُ زيارة بلدان عديدة والاطلاع على أوضاعها، فيما تدفع الجامعةُ تكاليف الرحلة بحدود. وما يلي هو ملاحظاتي ومطالعاتي وما حدَّثني به أساتذة "المؤتمر الثالث للعالم العربي والإسلامي في العلاقات الدولية" في مدينة إغداينسك الساحلية بجمهورية بولندا.

 

2- بولندا دولةٌ قومية تتحدد بلغتها وإقليمها، واللغة البولندية مُتفرِّعةٌ عن اللغات السلافية. والأمة البولندية هي امتدادٌ تاريخيٌّ للحكومات البلطيقية شمال أوروبا والميروفية وسط أوروبا. ويحدها في الحدود الحالية من الشرق: لتوانيا وبيلاروسيا وأكرانيا من الجمهوريات السوفيتية السابقة، ومن الغرب ألمانيا، أما الجنوب فتحدها جهوريتا التشيك والسلوفاك، ومن الشمال بحر البلطيق وجيبٌ روسي معزول مُندسٌ بينها وبين لتوانيا، واسمه كالينغراد! هذه المنطقة اقتطعها السوفييت بعد الحرب العالمية الثانية كقاعدة عسكرية بحرية تختصر على روسيا نحوا من 700 كليومتر من أمدية الصواريخ والطائرات في حالة قصف أوروبا، وتختصر أكثر من ذلك لرحلات السفن للانطلاق من ميناء سانتبطرس بيرغ شرق البلطيق. بولندا متصلةٌ بحريا وجويا بحركة نقل بالدول الإسكندنافية على الضفاف المجاورة  من البلطيق، أي السويد والنرويج والدنمارك، وهذه الدول تجلبُ الكثير من السياح القادمين للمشتريات الأرخص ثمنا  في بولندا؛ نظرا للضرائب الإسنكدنافية العالية.

 

أثرُ الصراعات القومية جليٌ في البولنديين كأمَّةٍ سلافية كاثوليكية خالصة، فلا تجدُ فيها بعد الحرب العالمية الثانية لا أقلياتٍ دينية ولا عرقية وازِنَة، إلا من هاجر إليها من الأفراد في العصر الشيوعي أو المرحلة العولمية

3- هناك جذورٌ تاريخيةٌ لبولندا منذ القرن العاشر، لكن الاتحاد الملكي البولندي اللثواني يعود للقرن السادس عشر. وفي الفترة  بين 1572 و1791 اختُرعت بدعةٌ مؤسسية لا سابق لها، قبل الثورة البريطانية والفرنسية، وهي انتخابُ الملك من قِبَل النبلاء، فكانت نوعاً من "ديمقراطية النخبة"، فلا يَثبُتُ عليهم ملكٌ وراثي أو ينصَّبُ عليهم صبيٌ أحمق، وفي ذات الوقت يحرِصُ النبلاء على اختيار ملك ضعيف حتى لا يتسلَّطَ عليهم. وأَقَرَّ قانونُ "فدارليةِ وارسو" سنةَ 1573 حرّيةَ المعتقد للكاثوليك والبروتستنت واليهود بما فيه جالية مسلمة تتريَّةٌ كانت تسكن غرب أوكرانيا. وهذا قبل أن يولد فلاسفة التنوير الفرنسيين أو يكتب جون لوك كتابه عن "التسامح"!

 

4- والقاسي في تاريخ بولندا (كما شهِدْتُ في متاحفها التعليمية) أنها اقتُسِمَت استعماريا بين ثلاث قوى (وهي الإمبراطوريات النمساوية والألمانية والروسية) بين العامين 1772 و1919. لكنها حصلت على الاستقلال بُعَيد الحرب العالمية الأولى لعشرين سنة. لكن وُقِّعَتْ معاهدةٌ سريةٌ سوفيتية نازية اقتسمت بولندا سنة 1939، وما لبثَ هتلر أن انقلب على عهده مع ستالين، وغزا كل بولندا وفتك بأهلها قتلا واستعباداً. ولما قدر الجيشُ السوفييتي على النازيين، قام السوفييت بسحق المدن البولندية التي يتحصن فيها الألمان وهدمها على من فيها، فضلا عن اغتصاب الألمانيات في المنطقة، وبُعيدَ نهاية الحرب، فرح جُلُّ العالم بنهاية القتال، لكن كان على شرق أوروبا أن يعيش 44 سنة إضافية تحت بُسطار المخابرات السوفييتية ونظامها الإفقاري إبان الحرب الباردة.

 

5- وأثرُ الصراعات القومية جليٌّ في البولنديين كأمَّةٍ سلافية كاثوليكية خالصة، فلا تجدُ فيها بعد الحرب العالمية الثانية لا أقلياتٍ دينية ولا عرقية وازِنَة، إلا من هاجر إليها من الأفراد في العصر الشيوعي أو المرحلة العولمية، وهذا على خلاف ما كانت عليه بولندا تنوُّعاً لامتدادها الجغرافي على مجاميع سكانية ضمها ستالين بعد الحرب العالمية لأوكرانيا وبلروسيا، فضلا عن المَحو الذي تعرض له يهود بولندا على يد النازيين.

 

6- ومن العجيب أن للكاثوليكية حضورا كبيرا، وتوجد راهبات بجلابيب طويلة تشبه المحجبات في دمشق، لا بل يحضُر الكنيسة أسبوعيا نحوٌ من 40% من السكان، وهو رقم هائل مقارنة بضعف تدين الغرب عموما. لكن على الضد فإن التشيك وسلوفاكيا اللتان تحدانها من الجنوب تصل نسبة الإلحاد فيهما فوق التسعين بالمئة! ومن المهم التذكير بأن الشيوعية لم تكن ذات شعبية جماهيرية في بولندا أيام الحرب العالمية الثانية؛ نظرا لمظالم ستالين عليها، ولأن الكنيسة كانت في صف الجماهير المظلومة، لكن الشيوعية كانت مُرَحَّبا بها جماهيريا في يوغوسلافيا لأنها هي مَن قاومت النازية. فلاحظ التفاوت الثلاثي: البولندي متدين مع نأي عن الشيوعية، والتشيكي ملحد مع نأي عن الشيوعية، واليوغسلافي مائل للشيوعية! هذه المآلات الآيدلوجية المتفاوتة تمنع التعميمات المطلقة على هذه الدول، مع أن جميعها من الشعوب السلافية، ومن أهل شرق أوروبا، ودخلوا تحت هيمنة موسكو ردحاً من الزمان.

 

النظافة عالية في مدينة إغداينسك التي رأيتُ، والطعامُ فاخر مع حذق في الطهي، وصناعة الحلويات تشابه التقاليد الفرنسية والألمانية في الفندقة
النظافة عالية في مدينة إغداينسك التي رأيتُ، والطعامُ فاخر مع حذق في الطهي، وصناعة الحلويات تشابه التقاليد الفرنسية والألمانية في الفندقة
 

7- وومما يُثيرُ الإعجاب أن بولندا قد سبقت كل الدول الخارجة من الشيوعية اقتصاديا (باستثناء التشيك) فصارت في منظمة الدول الغنية الديمقراطية OECD، فضلا عن كونها ضمن الاتحاد الأوروبي. متوسط الدخل السنوي للملايين الثمانية والثلاثين لهذه الأمة تُقارب 27000 دولار، لا بالسعر المطلق، بل بدولار القدرة الشرائية، وهذا يعني أن متوسط دخل الفرد أعلى من تركيا. السكان فيما رأيتُ منهمكون بخدمة السياحة وبتصدير المنتجات الزراعية والحيوانية والصناعية، وفي البلد صنائع قوية وبنية تحتية تقارن الموجود في الدول المتقدمة، لا بل تبزُّها حداثةً في بعض المناطق.

 

8- تخيل أن هذا البلد الأصغر من مصر مساحةً فيه أزيدُ من 19 ألف كيلومتر من خطوط السكك الحديدية التي تربط بين مدنها! وهذا يجعل التنقل في البلد رخيصا وسريعا. وبحسب معلومات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، فإن نصف مساحة الأرض البولندية تقوم بالإنتاج الزراعي حرفيا، وثلثها غابات، والبقية للمدن والمسطحات المائية وخلافهما. ومع ذلك، فالصناعة تشكل 40% من الناتج القومي الإجمالي، وعجز الموازنة لا يصل لـ3%، لكن مع فائض في الميزان التجاري. والاعتماد على توليد الكهرباء من حرق الفحم المحلي له عواقب وخيمة خصوصا وأن بولندا تتربع على الترتيب 22 عالميا في نفث الكربون!

  

هناك حركة شعبويةٌ يمينية حاكمة حاليا، ومن شعاراتها "بولندا أولا"، خصوصا مع تشرذم الحركة الديمقراطية الجامعة "تضامن" وتخوين زعيمها التاريخي "لِخْ فلِسَّا" نكايةً

9- النظافة عالية في مدينة إغداينسك التي رأيتُ، والطعامُ فاخر مع حذق في الطهي، وصناعة الحلويات تشابه التقاليد الفرنسية والألمانية في الفندقة. والأثاث الخشبي باهر ومتقن. فوق كل ذلك الأسعار ألطف مما لدى الدول الغربية بفارق كبير، مع منظومة أمان اجتماعي وتأمينات مَعقولة. ولا ينبغي التغافل عن كون  نسبة السكان دون خط الفقر تصل السدس، لكني لم أرَ ذلك عِيانا. رجال الأمن عند القطارات لا يحملون أي سلاح ناري، بل عصاةً قصيرةً، دلالة على انتشار الأمن والأمان. ولا تكاد تَراهم إلا نزيراً.

 

10- نسبة الأمية حوالي الواحد بالألف، وهو إنجازٌ يخُزي الدولَ العربية الغنية والفقيرة منها. وبإنفاق 2% من الناتج القومي الإجمالي على الدفاع، و5% على التعليم، فقد لمست أن التعليم الحكومي المجاني فعَّال، وجلُّ من هم دون الثلاثين ممن رأيتُ يتكلمون الإنجليزية بشكل معقول، وكل هذا بمجرد حصيتين أسبوعيا في المدارس، ما يدلُّ على جدية التعليم ولو قلَّتْ ساعاتُهُ! أما طلبة الدكتوراه وأساتذتهم فيكتبون بحوثا علمية بالإنجليزية بلغة أكاديمية طيبة دون الدراسة في أي بلد أنجلوفوني!

 

11- هناك حركة شعبويةٌ يمينية حاكمة حاليا، ومن شعاراتها "بولندا أولا"، خصوصا مع تشرذم الحركة الديمقراطية الجامعة "تضامن" وتخوين زعيمها التاريخي "لِخْ فلِسَّا" نكايةً.

 

12- المعمار متفاوت بين التاريخي البديع والشيوعي الإسمنتي المتواضع والعولمي الزجاجي الحديث، لكن النظافة عامة، والشقق صغيرة والتنظيم المديني مخصص لاحتواء كثافة سكانية عالية، مع مواصلات عامة سهلة ورخيصة ومنتظمة. أما المقاهي ففي كل ركن في الأسواق، لكن مع تركيز مبالَغ فيه على القهوة السوداء مع اختفاء مُحيِّر للقهوة الشقراء عالية الكافيين! وهناك آلاتٌ تطحن حبوب القهوة وتستخلص عصارتها فوريا وتصبُّ عليها رغوة الحليب الساخن، ما يُغني عن وظيفة القهوجي. وهناك آلاتٌ تقوم بحزِّ اللحم عن سيخ الشاورما بشكل آلي! ومن الطرائف أني سألت عاملة في مطعم "كباب برلين" عن أي نوع من الطعام هذا؟ فقالت "هذا طعام ألماني"، دون دراية منها أن المطعم وإن كان لشركة ألمانية فهو تركي. ويُنبِّهُني بروفسور العربية البولندي ميخائيل موخ لكون الكباب أحد الأطعمة المفضلة لدى البولنديين مع نسيانهم لأصله الشرق أوسطي.

 

13- بولندا قصةُ نجاح هائل بعد قسوة تاريخ طويل من الإقطاع والاستعمار والشيوعية، لكن لحقها تجاوب فاعلٌ لا مفعول به بالعولمة. جميع من رأيتُ يعمل في تواضعٍ وأدبٍ، لكن دون فكاهة وفرح أهل البلاد المُشمسة. الغيمُ في شتائها كميد، والشروق والغروب بين السابعة والنصف والثالثة والنصف في أواخر نوفمبر. شتاؤُها المظلم آفةٌ كبرى، لكنَّ صيفها بديع كما يروي السكان. المُسنّون من العصر الشيوعي لهم أخلاق تعكس قسوة تلك المرحلة. وعلى خلاف نجاح أمريكا في مُحاربة وتقليص التدخين، لا تزال  لهذه الآفة الشنيعة انتشارٌ يدنس جمال البلاد.

 

 وضع بولندا شبيه بالعالم العربي من ناحية القَدَر الجيوسياسي للتبعية، فبولندا تتوسط العملاقين الجرماني والروسي، وتكتوي بنارهما في القرون الثلاثة الأخيرة
 وضع بولندا شبيه بالعالم العربي من ناحية القَدَر الجيوسياسي للتبعية، فبولندا تتوسط العملاقين الجرماني والروسي، وتكتوي بنارهما في القرون الثلاثة الأخيرة
 

14- آفة أخرى (في قاموسي فقط) وهي أن سيارات التيوتا والهوندا أقل من السيارات الألمانية والفرنسية والتشيكية، وهذا أمرٌ يُنكَرُ لأنه تندرُ سياراتٌ تتفوق على الملكتين اليابانيتين في الكفاءة وطول العمر والبعد عن الصيانة  في العقدين الأخيرين (والكلام لتقرير المستهلك في أمريكا). لكن لعل هناك قيودا تجارية على الصناعات اليابانية.

 

15- يُحسَبُ للبولنديين أن لهم جامعات عريقة، وأنهم أصحاب شغف بالعلوم وإسهام فيها حتى في لحظات هيمنة العمالقة عليهم. فكوبرنيكوس الرافض لمركزية الأرض من مدينة بولندية، ومخترع مقياس الفرهنيهات للحرارة والفيلسوف شوبنهاور من المناطق البولندية أيضا،  لكن هؤلاء الأعلام من حواضن سكانية ألمانية كانت تستوطن المناطق البولندية فيحسبون عليها أرضاً لا ثقافةً. لكن ظهر فيها رهطٌ كبير من المَنَاطِقَةِ الرياضيين، لا بل وإن مَنْ فك شفرة التراسل السري للنازيين هو أحد الرياضيين البولنديين.

 

16- أهم خلاصة تعنينا: أن وضع بولندا شبيه بالعالم العربي من ناحية القَدَر الجيوسياسي للتبعية، فبولندا تتوسط العملاقين الجرماني والروسي، وتكتوي بنارهما في القرون الثلاثة الأخيرة. وكذا العرب يكتوون بنار الفرس والترك إقليميا، والأوروبيين والأمريكان عولمياً. ولا مجال لنهضة العالم العربي إلا إذا مدَّت دولةٌ إقليمية كتركيا وعملاق دولي كأوروبا يدها للتنمية المحلية للعرب كما نمَّتْ ألمانيا والاتحادُ الأوروبي بولندا منذ 2004، ومكَّنَتهم من الدخول المستقل والفاعل في العوملة. ومن دون التعاون مع الدول الكبرى والأقاليم العظمى، فتحدث عن قرون قادمة من سحق العمالقة لمساكين مشردين بين الموصل وحلب وبنغازي وغيرهم الكثير.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان