واحدة من أبرز خطايانا التي نرتكبها في حق القدس وعامة فلسطين هي التعامل معها على قاعدة الفاتورة التي يجب أن تدفع، فحتى لو كنا نقر بأن هذه الكلفة تندرج في إطار أداء الواجب فإنها تصور لدى البعض بمثابة العبء الذي يلقى على كاهل أمة لا تنقصها الأوجاع والجراح، وهذا ما يفسر مسارعتهم بعد أي إشكال مع أي طرف فلسطيني إلى جرد ما قدموه لها، سواء كان الأمر حقيقة أم ادعاء، بل والقفز بعد ذلك لتحميل الفلسطينيين مسؤولية كل تعثراتهم وإخفاقاتهم الذاتية.
الواقع أن هذه النظرة قاصرة ولا تسلط الضوء إلا على جزء يسير من الصورة، كما أنها لا تقدر قضية المستضعفين الأولى حق قدرها، فالقضية الفلسطينية أهم من تلك الحسابات المحدودة، وحاجتنا إليها أكبر من حاجتها إلينا. وإذا أردنا أن نتأكد من هذا الأمر فلنحص فداحة خسائرنا بتغييبنا لها في السنوات الأخيرة وغضنا الطرف عنها بعد أن ساهمت اتجاهات معينة في تحوير مسار الأمة.
لقد خلّف تغييب القدس والمسجد الأقصى فراغا قاتلا في المشهد العربي والإسلامي لم يستطع أن يملأ إلى حد الساعة، كما أدى إلى خلخلة توازن الأمة واضطراب في ترتيب أولوياتها وفي تقدير حلفائها وخصومها، فقد ظن البعض أن بإمكانه في لحظة الربيع العربي الاشتغال بتحرره الذاتي والتخفف النهائي منها، وتوهم آخرون أن إعمال التقية أو المداراة ومهادنة معسكر القوى العظمى مؤقتا استدرارا لعطفه ودعمه في قضاياه الداخلية قد يكون المخرجَ له ولبلده، كما استغلت جهات أخرى مكانة فلسطين العظيمة في قلوب العرب والمسلمين أبشع استغلال من أجل سحق أي صوت ينادي بالحرية باسمها.
المحصلة أن شيئا من حسابات تلك التيارات والتوجهات السياسية وطموحاتها لم يتحقق. في المقابل أصبحنا بصدد شرخ هائل لم تعرفه الأمة من قبل وندفع ثمنه حاليا غاليا. إن القضية الفلسطينية قضية وحدوية بامتياز، فقد استقطبت وجمعت ما لم يجمعه غيرها، وهذا أمر واضح وضوح الشمس، فما من قضية يسطع حقها وتبرز مظلومية شعبها مثلها، ما جعلها تحظى بإجماع استثنائي كان يساهم في تماسك جسد الأمة وتحصينه على أرضية مشتركة صلبة.

الأهم مما سبق أن فلسطين تلخص الصراع في المنطقة، ما يفسر استعصاء التغيير في لحظة "الربيع العربي" بسبب الفيتو الدولي الذي وُضع على تحرر الأمة وانعتاقها من مستبديها الصغار ومحتلها على حد سواء، فالداعم الخارجي لهما واحد إلا إذا أدى ذلك التغيير إلى فوضى عارمة تأتي على الأخضر واليابس بما يخدم الطرف الصهيوني في نهاية المطاف.
النتيجة أن التصور الذي تعامل مع التحرر الداخلي والخارجي كخطين متوازيين كان ساذجا، فما دام الكيان الصهيوني جاثما على الخريطة العربية والإسلامية فلن تنعم الأمة بأي تحول نحو كرامتها وعزتها ولن تترك لتحديد مصيرها بيدها، خصوصا أنه يعي جيدا أن هذا سيعرّض استقراره للخطر ما دام نبض الأمة متعلقا بقضيته المقدسة.
ما خسرناه كذلك بإدارة ظهرنا للقضية الفلسطينية هو حرماننا أنفسَنا من رصيد كفاحي فريد كان في السابق نموذجا للاقتداء لكل حركات التحرر عربيا وإسلاميا وحتى دوليا، ما جعل بعد ذلك النزعات الفردانية وثقافة الميوعة واللامعنى تكتسح وأن تخبو جذوة التضحية والفداء. فزيادة على حالة الإحباط العامة الرهيبة بعد الثورات المضادة، كان لانزياح صخرة المبادئ العظمى التي تمثلها قضية الأمة المركزية من قبل أثرا كبيرا في وضعنا الراهن.
لا مخرج للأمة العربية والإسلامية مما هي فيه إلا بإدراك طبيعة أعدائها وامتداداتهم الخارجية ومواجهة مستبديّها كوكلاء للخارج داعمين للكيان الصهيوني وليس فقط كطغاة وفاسدين محليين، حتى لا تنخدع باستدراج قوى الاستكبار العالمي لها، كما انخدعت في الموجة الأولى من موجات "الربيع العربي".
قدَرُ القدس أن تظل العنوان الجوهري لصراع الأمة مع من يعتدي عليها، لما تختزنه من رمزية دينية وحضارية وتاريخية مكثفة وبما يفرضه الواقع السياسي من معادلات، فهي مركز الصراع الكوني بين تمام الحق وتمام الباطل، كما كان يردد الشهيد فتحي الشقاقي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
إعلان