شعار قسم مدونات

لماذا نجحت طالبان وأخفقت القاعدة؟ (1)

blogs - Taliban
إشكالية علمية وعملية برسم الدراسات وسبر الغور، فهما يوفر الكثير من العرق والتعب، فضلاً عن الدماء والأشلاء والضحايا. وحتى لا يجادل أحدٌ بأن طالبان لم تنجح حتى الآن في تجربتها، نقول قصدنا نجاحها في البداية بالقضاء على الفوضى الأفغانية والوصول إلى الحكم في 1996 وكسبها اعترافاً من أربع دول وتحييد دول كبرى وصغرى، إلى أن وقعت الواقعة في الحادي عشر من سبتمبر أيلول 2001، فكان أن خسرت كل مكتسباتها.

وباعتباري غطيت الحرب الأفغانية وعشت في تلك المنطقة لثلاثة عقود، ثم تنقلت في اليمن وسوريا وغيرهما، فضلاً عن لقاءاتي مع قادة التجربة النظرية والعملية، ما قد يسهّل رسم خريطة طريق عكسية لما حصل وملامسة الخلل الذي وقع فيه الجميع. وأظن أن الخلل يكمن في الجانبين العلمي والنظري، ولنبدأ بالحلقة الأولى لتلمّس الجانب العلمي النظري، لنتحدث في الحلقة الثانية عن الجانب العملي للممارسة.

كان للمدارس الدينية الديوبندية الحنفية، المنسجمة مع الحاضنة الاجتماعية وليس المفروضة عليها، الدور الأهم والأكبر في العمل الجهادي الأفغاني منذ انطلاقه ضد السوفييت في أواخر السبعينيات، خصوصاً أن هذه المدرسة متغلغلة وقديمة وراسخة في المجتمع هناك؛ فهي نتيجة المدرسة النظامية التي أسسها نظام الملك في بغداد إبان الخلافة العباسية، وسارت بخطتها العلمية والعملية على السياق نفسه، منسجمةً مع الأمة، نظرياً ومممارسة، فكانت مقاومتها ضد البريطانيين؛ ولذا لم تكن مدرسة جديدة على الحاضنة الاجتماعية. فنجحت على مدى عقود في توفير الشرعية الدينية للمؤسسة العسكرية الباكستانية وللحكم في باكستان. ولذا رأينا اهتمام الرئيس الباكستاني الأسبق ضياء الحق بها أكثر فأكثر خلال حكمه الممتد من 1977 إلى 1988 والاعتناء بها، فازدهرت أكثر على حساب المدرسة البريلوية الصوفية الموغلة في البعد عن العمل السياسي، ولذا لمسنا كيف أن قادة الجهاد الأفغاني، ومَن قبلهم ومَن بعدهم، كانوا من خلفيات المدرسة الديوبندية وليس من المدرسة البريلوية.

 

ما رأيناه حتى الآن في المدرسة القاعدية هو تفضيلها الرؤية السياسية الضيقة على العمل الجهادي للأمة، المنسجم مع أمته وشعبه وحاضنته، وإيثارها النفَسَ القصير على النفَس الطويل الذي يحتاج إلى أخذ الجميع معه

وحين انتفض الشهيدان أحمد الشهيد وإسماعيل الشهيد في القرن الثامن عشر ضد البريطانيين كزعيمين سلفيين لم ينجحا في مهمتهما السامية، لبعدهما عن الحاضنة الاجتماعية، بخلاف ما حصل للمدرسة الديوبندية وفصائلها الجهادية في أفغانستان وكشمير. ولعل النشاز حتى الآن هي حركة "عسكر طيبة" سلفية التوجه، التي تقاتل في كشمير؛ ولكنْ لا تزال حاضنتها الاجتماعية ضعيفة مقارنة بالمدرسة الديوبندية وفصائلها العسكرية المحسوبة عليها فكرياً. بيد أن "عسكر طيبة" تسعى إلى نسج علاقات قوية مع المجتمع من خلال مؤسسات إنسانية وإغاثية تابعة لها، وكذلك من خلال علاقات سياسية واجتماعية مع المؤسسة الديوبندية نفسها، لتعوّم نفسها أكثر وأكثر. وفوق هذا حماية حكومية لها، ما قد يضمن لها النجاح والتقدم. لكنْ تبقى أمامها إشكالية علمية حقيقية متمثلة في وجود مسافة مذهبية وفكرية مع الحاضنة لكونها سلفية الاعتقاد، بخلاف القاعدة الاجتماعية الباكستانية المتحدرة، كما ذكرنا، من حنفية ديوبندية تقليدية.

في العالم العربي والإسلامي كانت الماترويدية والأشعرية الحاملَ الأساسي لكل عهود الخلافة التي تعاقبت عليه من العباسية إلى العثمانية. وحتى الإمام ابن تيمية تحاشى رفع راية السلفية لعمق إدراكه تلك المعادلة المهمة الممثلة في تجييش الأمة وتعبئتها بما يجمعها لا بما يفرقها. ولعل دارس حياة وحالة صلاح الدين الأيوبي يجزم بأن مَن انتصر في تلك المرحلة هو المدرسة النظامية وروادها وقادتها وأساتذتها بإعداد جيل جهادي منسجم مع أمته وشعبه، لم يأته من فوق ومن استعلاء، ولذا رأينا أنه في كل عهود الأمة الإسلامية كان الجهاد جهادَ أمة شعبي يُجيّش الجميع، وليس جهادَ نخبة منفصلا عن القاعدة الاجتماعية، فكان النصر حليفه، إذ يتضرر الجميع من فشله، كما يستفيد الجميع من نجاحه وانتصاراته.

ما رأيناه حتى الآن في المدرسة القاعدية هو تفضيلها الرؤية السياسية الضيقة على العمل الجهادي للأمة، المنسجم مع أمته وشعبه وحاضنته، وإيثارها النفَسَ القصير على النفَس الطويل، الذي يحتاج إلى أخذ الجميع معه، عملاً بقول المصطفى عليه السلام "سيروا على سير أضعفكم". ولذلك رأينا انقسامها أخيراً إلى ثلاثة أقسام، فقسم كهيئة تحرير الشام بقيادة أبي محمد الجولاني، التي فكّت ارتباطها بها حقيقة وواقعاً، ودفعت ثمن ذلك لاحقاً عبر مهاجمة أيمن الظواهري لها في شريطه، ومهاجمة الجولاني أيضاً لكونه خرج عن البيعة وفك ارتباطه معه. وجاء شريط الظواهري بعد اعتقال الجولاني قادةً محسوبين على القاعدة والمتمردين على حكمه في سوريا، ثم الإفراج عنهم لاحقاً تحت ضغط قواعد الهيئة، التي ظهر وجود جيوب لهم فيها. وقسم ثان هو تمرد تنظيم الدولة على القاعدة، فذهب في خط تشددي أبعدَ ما يكون عن الحاضنة الاجتماعية، ليعيش أوهام خلافة مزعومة دفع ثمنها هو والشعوب التي حكمها لأشهر أو لثلاث سنوات تقريباً ملايين القتلى والجرحى والمشردين، فكان منفصلاً عنهم، ولعله انفصال أسوأ من انفصال الحكام المستبدين عن الشعوب. أما القسم الثالث والأخير فهو قسم القاعدة بزعامة أيمن الظواهري، الذي لا يزال مكان وجوده مجهولاً، وبالتالي من الصعب أن يقود عملاً عسكرياً يُلزم به الأمة كلها، فضلاً عن وجود قيادات التنظيم نفسه في طهران، عاصمة البلد التي يقاتلها التنظيم، ما يُحرك مجدداً قضية إمامة الأسير، التي جزم ببطلانها العلماء الأجلاء قديماً وحديثاً..

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان