شعار قسم مدونات

عندما يؤدبنا الألم!

مدونات - الألم

كثيرا ما نميل إلى التقليل من معاناة الآخرين، ونميل أيضا إلى الحكم عليهم بالمبالغة بل ربما اتهمناهم بالرغبة في لفت الانتباه، أنا أيضا كنت ولعلني لا زلت من هذه الكثرة، فقد كنت أنظر أحيانا إلى معاناة مرضاي وأقارن بين تعاملهم المختلف مع نفس المرض، لأصنف هذا صبورا والآخر جزوعا مع أني لا أملك هذا الحق، بل كم مرة أضمرت في نفسي الضجر وحكمت على مريضي بالجزع المبالغ فيه وهو يطرق باب غرفة الحراسة من أجل جرعة مسكن لتخفيف ألم أو حقنة لارتفاع في درجة الحرارة، هل كان لابد لي من بعض الألم أو ربما الكثير منه لأفهم معاناة مرضاي؟ الجواب وبكل أسف كان نعم، كان لابد لي أن أرشف من كأس الألم لأعرف كم هو مُرٌّ!

كانت نزلة برد قوية كفيلة بأن تذيقني كثيرا من المعاناة وتعلمني كثيرا من الآداب التي أَنْسَتْنِيهَا الدنيا.. نعم فقد تعلمت منها أن الألم يبقى ألما مهما بدا حقيرا في عيون الآخرين، وأنّ من تنخر المعاناة جسده ليس كالمتفرج الذي يطالب غيره بالصبر، عرفت خلالها شعورا غريبا مخيفا، إنه الشعور بالوحدة والضعف الشديد حين لا تجد يدا حانية يمررها أحدهم على رأسك ويخبرك أنك ستكون على ما يرام.

 

لعله ليس جميلا أن ترى قلق الآخرين عليك، لكنه مع ذلك يمنحك شعورا أنك لست مجرد صفر في حياتهم، وتلمس في أوج العاصفة وتوقن بعدها أن لك مكانا في قلوب المحيطين بك، نزلة البرد كانت كفيلة أن تجعلني أصر على أهل مرضاي أن يعودوا قريبهم ويتحلقوا حوله ويشعروه بدفء عواطفهم، نعم عيادة المريض ذلك العمل العظيم، الذي لا يكلفك سوى ابتسامة وكلمة طيبة تيقنوا أنه يمنح مرضاكم الشعور بالانتماء، شعورٌ لا يعرف معناه إلا من فقده.

الألمُ يبقى ألما، مرادفٌ للمعاناة، مهما كان بسيطا يؤرقك ويفسد عليك يومك، لكن هون عليك ألست مُثَابا حتى عند وخز الشوكة مالم تسخط؟ ولعل أطرف ما تعلمته من الألم، حلاوة أن تتبادل الأدوار مع مرضاك فيلعبون دور الطبيب وتصبح أنت المريض، فيقدمون لك النصائح الصادقة ويطالبونك بالذهاب لمتخصص ليفحصك، دون أن ينسوا تذكيرك ألا تؤجل الموضوع، كم كان رائعا أن يستوقفك مريضك في الممر ويسألك بقلق "ما الخطب، ما الذي تشتكيه؟" ويدعو لك من أعماقه بالشفاء.

عندما ترى غيرك يتألم يا عزيزي، ذكره بأجر الصابرين، ربت على كتفيه بل احضنه إن استطعت، أخبره أنك ستبذل كل ما في وسعك لتخفف عنه
عندما ترى غيرك يتألم يا عزيزي، ذكره بأجر الصابرين، ربت على كتفيه بل احضنه إن استطعت، أخبره أنك ستبذل كل ما في وسعك لتخفف عنه
 

تعلمت من الألم أيضا كم تسقط الإنسانية من أخلاقنا عندما لا يعذر أحدنا الآخر وقت مرضه، عندما نطالبه أن يعمل ويكون مسؤولا وحده عن أعطاب جسده، كم هو جرم عظيم أن تعلم بمرض زميل ولا تمد له يد العون، يجب أن نتذكر جيدا أن الإنسان يبقى الأهم فهو فوق كل شيء دنيوي، أن نعلم يقينا أن التضحية ببعض من منطقة الراحة في حياتنا تُوَلد الألفة والود فيما بيننا..

بيت القصيد يا أحبتي أن الألم لا يتوقف على أعضاء الجسد وحسب، لعلي ضربت مثلا الأمراضَ لأنه ميداني وساحة قتال ألفتها، لكن الألم والمعاناة تتعدى حدود الجسد، ألم أن تحرم نعمة البنين، أو أن تبتلى بأبناء عنيدين، أو أن يستولي أخوك على حقك في الميراث، أو أن تكون منبوذا في المجتمع، ألم الفقر والجوع، ألم الحرب، ألم انعدام الاستقرار، ألم الاغتراب، ألم الحيرة والإحساس بالضياع، ألم أن تكون أسيرا لعاداتك القبيحة، هي آلام كثيرة نصارعها كل يوم، لكن هلاَّ كففنا عن بخس آلام بعضنا بعضا؟ هلا توقفنا عن اتهام بعضنا بالجزع وعدم الصبر؟ هلا أوقفنا تسابقنا إلى منصات القضاء نحكم على ردود أفعال الناس ونحن نجهل ما خلفته هذه الأفعال من خسائر فادحة وكم أعقبت من كسور في نفوسهم؟

عندما ترى غيرك يتألم يا عزيزي، ذكره بأجر الصابرين، ربِّت على كتفيه بل احضنه إن استطعت، أخبره أنك ستبذل كل ما في وسعك لتخفف عنه، أخبره أنك ستبقى إلى جانبه وتشد عضده، اهمس في أذنه أن ما آلمَه قد آلمَك، وإياك ثم إياك أن تحقر آلامه وتلمز صبره وثباته، فإن لم تستطع أن تكون جدارا يسند إليك ظهره، فأرجوك لا تكن حملا زائدا فوق حمله…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.