شعار قسم مدونات

الهوية.. بذرة التعصب الأولى!

blogs مجتمع

تعد الهوية من الأمور التي تحدث إشكاليات كثيرة بارزة، فظاهرها ملتبَس وباطنها مبهم وشواهد ذلك عديدة. فما الهوية؟ وما أنواعها؟ وكيف يتسبب عدم فهمها في نعرات دينية وقومية، وإراقة دماء وقيام حروب؟ يمكن تعريف الهوية من خلال تناول نوعيها، ولا يمكن استيعابها بصورة مبسطة وإدراك ماهيتها سوى بشقها إلى شطرين نورد كلا منهما على حدة.

 

الهوية الجماعية

تشكلت الهوية الجماعيّة منذ القدم، عندما تكتلت الجماعات البشريّة لإنشاء القبائل بعد اكتشاف الزراعة والري. وهنا بدأ الإنسان يعي مدى ضعفه الفردي فاستقوى بقبيلته وحرص على حمايتها وهذا الأمر قد دفعه إلى معاداة القبائل الأخرى واستشعاره التهديد وعدم الاطمئنان. وأصبح الانتماء القبلي والعرقي من المفاخر، ويظهر ذلك في أشعار الفخر القبلية لدى العرب، والتمجيد بالأنساب والأجداد.

  

مفهوم القبلية(الهويّة الجماعية) ما زال قائما ومعتنقوه يمثلون غالبية آخذة في التكاثر، وإن تغيرت الأنماط وتعددت الأشكال. فهناك القبلية الفكرية التي تعتنق أيدلوجية ما وتسخر مما سواها وتعاديه، عماد تفكيرهم هُم، والآخر هو العدو اللدود المتربص بهم. وهناك القبلية الدينية التي يرى معتنقوها أنهم الصالحون التقاة أصحاب الجنان الآمنين من عذاب الرب، أما الآخرون -وإن ارتقوا درجات روحانية عالية- فهم الضالون المعذبون الواجب إقصائهم، بغضهم ضرورة وقتلهم عبادة، ولا رحمة تجوز عليهم.

 

كما يبدو فإن هناك ثنائية في التفكير تغلب على الهوية الجماعية (القبلية)، والتي تستسيغها الجماعات المتطرفة والفرق الإرهابية؛ لما فيها من نبرة عنف مبررة مستلذة، كما يستسيغها أيضا المعارضون للرأي الآخر، جامدو العقل محتقرو المذاهب الأخرى. إن من شأن تغليب الهوية الجماعية والفكر الجمعي هو جمود العقل وركود مياه الفكر وتعكيرها بأمور داعية للتطرف مجلبة للتعصب والتشدد الأعمى، ولكي نخرج من ممر القبلية الضيق إلى رحابة الكون الفسيح يجب تغليب الهوية الفردية بعد أن نفهم المقصود منها.

 

  تغليب الهوية الجماعية على الفردية لا بصيص خير فيه، فمثلا  الصراع بين الأتراك والأكراد؛ على الرغم من اتفاقهم في الهوية الدينية -وهي الإسلام- لكن النزاع الجغرافي هو ما تفاقم وغطى ما سواه
  تغليب الهوية الجماعية على الفردية لا بصيص خير فيه، فمثلا  الصراع بين الأتراك والأكراد؛ على الرغم من اتفاقهم في الهوية الدينية -وهي الإسلام- لكن النزاع الجغرافي هو ما تفاقم وغطى ما سواه
 
الهوية الفردية

هي الشق الآخر من مفهوم الهوية، والتي تبلورت وبرزت أهميتها عندما هجرنا القبائل وسكنا المدن، ثم ظهرت العولمة وانفتحت المجتمعات على بعضها. ويُدرك مفهوم "الهوية الفردية" عند السؤال: من أنا؟ مع التجرد من الألقاب الاجتماعية والانتماءات الجماعية والصفات الشكلية. بصيغة أخرى، الهوية الفردية هي جميع ما يؤمن به الفرد ويعتقده ويدافع عنه، هو ما ترتاح إليه روحه وترنو إليه نفسه من أهداف. وتفصح الهويات الفردية عن نفسها عندما تتخذ صراعات الفرد الفكرية عقلَه ميدانا لها، وعند القرارات المصيرية أو التعثر بالمنظومات الفكرية المضادة له المخالفة لمعتقداته، هنا تبرز معلنة عن نفسها.

      
وكلما ابتعد الفرد عن قبيلته (أمانه الفكري)، اقترب من ذاته وفَهم ماهيتها، وعلى الرغم من قدسية رحلته الداخليّة هذه، إلا أنها شاقة مرهقة؛ فإعمال الفكر في المُسلّمات، واستمرار طرح التساؤلات يولد لديه بالًا مضطربا وشعورا قلقا ويورثه رؤية مشوشة مؤقتة، ومن الممكن نبذه وانتقاده ورفض المجتمع له. وبخوضه في رحلته هذه، تبدأ الرؤية في الاتضاح ويصبح فكره فكرا شموليا يسع الجميع، غير مقتصر على جماعته بل بات واسع الصدر رحب الفكر لا يستنفره شعور الغضب الأعمى، بل يصبح أكثر انضباطا وتحكما في مشاعره، ومروضا لها.
 

صراع الهويات وبذور التعصب

أرجو أن يكون ما أردت إيصاله لكم قد تشكل في أذهانكم ووضحت أبعاده؛ وهو أن تغليب الهوية الجماعية على الفردية لا بصيص خير فيه، بل تنضوى تحته الخلافات وتزداد الهوة بين الأفراد. وعدم استيعاب تعدد الهويات داخل الفرد الواحد كالهويات العرقية والمذهبية والقومية والدينية واللغوية والجغرافية من شأنه افتعال الصراعات؛ فاختزال كل هذا في واحدة فقط وجعلها البارزة على الساحة يُنذر بالسوء.

   

لنأخذ صراع الأتراك والأكراد مثالا على ذلك، فعلى الرغم من اتفاقهم في الهوية الدينية -وهي الإسلام- لكن النزاع الجغرافي هو ما تفاقم وغطى ما سواه. وقبائل الهوتو والتوتسي برواندا، قد اتفقوا أيضا في الهوية المسيحية، لكن اختلاف الانتماء القبلي قد نمى لديهم مشاعر العداء، وأراق الدماء.

   

ملخص ما أردت قوله هو أن جمود العقل ونمطية التفكير يغلان العنق ويصفدان اليد، لكنه أمر مستلذ! إذ يزيح عن عاتق صاحبه همّ البحث والتفكير، ويقدم له الحلول الجاهزة المعبأة، ومنبت هذا الأمر هو الغفلة عن النفس والتبعية الفكرية والضمائر المتحيزة التي تطفح بها مجتمعاتنا، وأكرم بمن علم فعمل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.