من سنن التدافع في الحياة السياسية؛ تجديد التنظيمات لنفسها جزئيا أو كليا حسب طبيعة المرحلة والظروف المحيطة، ويغلب على هذا التجديد في كثير من الأحيان صراعات داخلية بسبب وجود جملة من الأفكار المتناقضة، وتختلف درجات الصراع من أدنى مرتبة -ألا وهي الاختلاف التقني إذا صح التعبير- ويمكن تلخيصه في السؤال الآتي: ما هي مظاهر التجديد؟ وفيما تتمثل؟، إلى أعلى مرتبة؛ وهي الاختلاف الإيديولوجي الذي يتطور إلى خلاف، وتتجلى مظاهره في تفكك وانشقاق ولربما إقصاء.
ولعل من بين أهم مظاهر الصراع الداخلي في التنظيمات؛ هو قضية استحداث الهياكل، وهذه الظاهرة لا تحدث إلا في التنظيمات العريقة؛ والتي تتبنى عددا لا باس به من الأفراد وقوة انتشار وتجربة ميدانية رائدة. ويمكننا أن نعرف استحداث الهياكل بأنه؛ مطلب القاعدة المحلية لتنظيم ما ترفعه القيادة المحلية إلى قيادة أعلى منها رتبة من أجل أخذ صفة القيادة العليا تحسين العمل التنظيمي واستيعاب الطاقات وتأطيرها، ونمثل لذلك بقيادة بلدية من ورائها قاعدة تطالب قيادة المحافظة (الولاية) بإعطائها صفة قيادة ولائية طبقا لظروف ومعطيات يقبلها العقل والواقع. تتجلى دوافع استحداث الهياكل بالنسبة للقيادة المحلية داخل أي تنظيم فيما يلي:
1- عصرنة العمل التنظيمي وتطويره
الظلم السياسي ينجر عنه شعور القيادة المحلية بعدم استيعاب الطاقات الموجودة بين يديها حسب اللوائح الداخلية وما تفرضه هرمية التنظيم، وهذه التراكمات الإقصائية ستولد شبه ثورة داخلية |
يحتاج إلى تجديد على طريقة العمل المؤسساتي ذا الصبغة الاقتصادية؛ فالشركات الاقتصادية لا تأخذ بالحسبان فكرة التدرج في العصرنة والتطوير، بل تتبنى فكرة (أنا موجود حيث ما كان الزبون موجودا)؛ فالعصرنة حسب اعتقادهم لا تتمثل في جودة المنتوج، بل المهم هو من يستهلك، فالتطوير من منظورهم مرتبط بوجود قاعدة فاعلة تريد حيزا أكبر من استقلالية القرار.
2- توسع التنظيم
إن استقلالية القرار حسبهم تعني زيادة الصلاحيات الداخلية الممنوحة لهم، وبالتالي بسط النفوذ التنظيمي على حيز أصغر، يمكن التعامل معه وتفعيل قدراته بشكل أفضل؛ وهو ما يضمن لهم -من خلال قيادة محلية جديدة- توسعا عموديا على مستوى القيادة، وتوسعا أفقيا على مستوى الأنصار؛ لأنه كلما زادت القيادات زادت دائرة الأنصار المحيطين بكل قيادي محلي.
أما من الجانب السلبي؛ فالتنظيم الذي يشهد تضخما مطردا في عدد الأفراد؛ يحدث فيه ما يعرف بالظلم السياسي، والظلم السياسي على المستوى الداخلي للتنظيمات؛ هو إقصاء متعمد أو غير متعمد -في غالب الأحيان- لفرد أو مجموعة جزئية بسبب القاعدة الواسعة.
وهذا الظلم السياسي ينتج عنه شعور القيادة المحلية بعدم استيعاب الطاقات الموجودة بين يديها حسب اللوائح الداخلية، وما تفرضه هرمية التنظيم، وهذه التراكمات الإقصائية ستولد شبه ثورة داخلية تتطلب الأخذ بعين الاعتبار. أما إذا كان هذا الظلم متعمدا وبتقية سياسية شعارها: "ضرورة المرحلة" أو "أولوية تنظيم البيت الداخلي"، فإن هذه الأسطوانة ستصبح مشروخة مع مرور الوقت، وتتسبب في ضررين:
* داخلي: عدم عودة العمل إلى ما كان عليه، فيكتسي العمل السياسي في هذا التنظيم الحذر في التعامل من أعلى سلطة قيادية إلى أبسط مناصر له.
* خارجي: فقدان المصداقية بين الأنصار وتشوه الصورة الخارجية للمتعاطفين.
لكن ما تؤخذ عليه فكرة استحداث الهياكل، هو تناقضها مع فكرة جوهرية لدى مختلف التنظيمات -خصوصا الإسلامية منها- ألا وهي فكرة الشمولية. فشمولية الفكرة تعني شمولية التنظيم، وبالتالي شمولية الهياكل، التي لها امتدادات تاريخية اصطلح عليه قديما "بالمشيخة" (الشيخ الواحد والمريدون من حوله) وهي في الأصل تعود إلى فكرة الخلافة. فأي محاولة استحداث هيكلي تعني اعتداء على غاية التنظيم، وبالتالي على سبب وجوده.
انطلاقا من فكرة الشمولية لدى التنظيمات فإنه يتكون لدينا رأي نقيض يرى أن استحداث الهياكل مجرد ترف تنظيمي، ولهذا الرأي أسباب ومبررات كالآتي:
– فوبيا التغيير والتجديد: هو مرض نفسي؛ مثلما يصاب به الأفراد، تصاب به الجماعات والتنظيمات وحتى الدول. المصابون بهذا المرض من مختلف الأصناف أنفة الذكر ينظرون بسلبية للتغيير، وبعبارة أدق يتخوفون من النتائج السلبية المصاحبة لكل تغيير.
– مركزية اتخاذ القرار: الشخصية المصابة بفوبيا التغيير هي شخصية مسيطرة، دائما تحب سماع هذه الجملة (سيدي الوضع تحت السيطرة!) تحب أن تكون على علم بكل التفاصيل وعلى جناح السرعة، ومنها يتخذ القرار الذي تراه صائبا. والقرار الصائب ليس قرارا صحيحا يخدم المصلحة العامة، وإنما قرار صائب يحمي التنظيم، وهذا أمر يحمي رقعة جغرافية مترامية الأطراف وعددا مهما من الأنصار والمتعاطفين.
في هذه الحالة ستنقلب هذه النقطة الإيجابية المهمة في تسيير التنظيمات من جهة القيادة إلى نقطة سوداء بالنسبة للأتباع، ويتغير المصطلح إلى أنانية اتخاذ القرار؛ فالأمر أشبه بالقائد الذي احتلت بلده وبقية العاصمة آمنة وهو لا يزال يردد: الوضع تحت السيطرة!
نعيش بذهنية الخوف من تقسيم ممتلكات الرجل المريض، ويصبح التحدي الظاهر بين أيدينا هو تحدي نفسي داخل الوعي الجمعي لهذا التنظيم، أما التحدي الحقيقي فسيكون عن الإضافة التي سيقدمها هذا التقسيم |
– خطر التشتت: لا مركزية القرار تعني تعدد مراكز اتخاذه؛ وهذا يؤدي إلى التشتت بالنسبة للأتباع، هذا الكلام صحيح ومقبول إن لم يكن هنالك ألية لتسيير القرارات، وعلى مستوى التنظيمات فاللوائح الداخلية تفصل في هذا الأمر، فالأكثر صحة ليس مصطلح التشتت، بل تنوع الآراء، عندما نستحدث هياكل جديدة بنفس وزن الهيكل القائد سابقا؛ يعني ذلك وجود آراء متكافئة من حيث الوزن، لأن رتبة القرار متكافئة، فعندما تقول لرئيسك في العمل: (أقترح كذا وكذا) فيجيب بكل أدب: (سندرس اقتراحك لاحقا) أما عندما تكون رئيسا تخاطب رئيسا أخر، فلن تقول (أقترح) بل تقول: (أرى) وهو لن يقول: (سندرس اقتراحك) بل سيقول: (حدد لي موعدا لنتباحث محتوى قرارك)، وبالتالي نتحصل على ندية في اتخاذ القرار ما يزيد من احتمالية اتخاذ القرار الأكثر صوابا عند الهيئات العليا.
من خلال ما تقدم سابقا، يتبادر إلى ذهن القارئ سؤالا بسيطا: لماذا لم تبق هذه التنظيمات جمعيات تأسيسية تعقد مؤتمرا كل خمس سنوات ونتجنب هذه المعارك الهامشية بين فروع التنظيم الواحد؟ الإجابة أكثر بساطة من السؤال، وهي أن هذه الفروع القائمة اليوم تكونت من خلال استحداث الهياكل لتسهيل العمل، إذا الأمر حدث مسبقا، لكن لما هو صعب اليوم؟
حقيقة لا توجد إجابة واضحة، كل ما في الأمر أنه اختلاف في الرؤية والتوقيت وليس في المبدأ، وطريقة الفصل بين الرأيين هي تجاوزهما، فالسؤال الأكثر أهمية هو: ماذا بعد استحداث الهياكل؟ قد يبدو السؤال مستفزا لمن يرون أن استحداث الهياكل ضرورة ملحة؛ كون السؤال في ظاهره يحمل نبرة التحدي، ولكن لنتمعن فيه من وجهة نظر الرأي القائل إن استحداثها مجرد ترف تنظيمي، فالسؤال يحمل أيضا في طياته التحدي، وعندما نصوغه بطريقة أخرى: ما المانع من استحداث الهياكل؟
طبعا، الإجابة واضحة، لا يوجد مانع! فمن وجهة نظر عملية؛ هو نتيجة طبيعية لمن رفع شعار العمل المؤسساتي وهو ثمرة من ثمار التوسع والتمدد، فمن غير المقبول أن نعيش بذهنية الخوف من تقسيم ممتلكات الرجل المريض، فالتحدي الظاهر بين أيدينا هو تحدي نفسي داخل الوعي الجمعي لهذا التنظيم لا غير، أما التحدي الحقيقي فسيكون عن الإضافة التي سيقدمها هذا التقسيم الهيكلي الجديد، والميدان هو الفيصل.
في الأخير، فانه لا يسعنا سوى التعامل مع هذه الصراعات الداخلية بشيء من المرونة والإيجابية، والنظر إليها على أنها دليل صحي وسلامة تنظيمية ينبغي معالجتها بسرعة، لأن كثرة الشقوق في الجدار تؤدي إلى انهياره، والأهم من ذلك هو دراسة المردود الميداني لمثل هكذا خطوات، فلا مكان للمجاملات على حساب قوة التنظيمات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.