لم يستدعني فضولي لقراءة ما كتب فيها، ولكن لفتت انتباهي كلمتان في أعلى الورقة كعنوان: أبكتني الشكولاتة، استغربت من العبارة وتمكنت هذه الأخيرة من إشعال فضولي الذي جعلني أقرأ ما كتب. لأن الشكولاتة في العادة لا تبكي، فهي معشوقة الفتيات وعلاقتها جيدة مع الجميع كبارا وصغارا. فهل قررت الشكولاتة أن تقسى علينا كما يفعل الجميع وتبكينا؟
محتوى الورقة كان فضفضة لفتاة كتب فيها: يومي كان جميلا، فقد زرت صديقتي العائدة من فرنسا. فرحت جدا برؤيتها، هي صديقتي الوحيدة التي تؤنسني في غربتي عن أهلي. فنحن ندرس معا، أساعدها على فهم الدروس، نضحك معا، هي من عائلة غنية ولم تشعرني يوما باختلافنا أو بفقري. حدثتني عن جمالِ باريس، قدمت لي علبة شكولاتة كهدية، أفرحتني جدا هديتها. هي تعرف حبي للشكولاتة فلقد أحسنت اختيارها.

أبى عقلي أن يتناسى ولو للحظة سموم كلماتهم، تماسكت نفسي وحاولت إخفاء صدمتي عنهن، استأذنت منها بعد أن شكرتها مجددا وقررت مغادرة بيتها بأسرعِ ما يمكن، ولكي لا تكشف دموعي أمري. كنت أمشي بخطى حزينة كالمحاربِ العائدِ من حرب خاسرة، وقد أخذت مني الصدمة مأخذها، تذوقتُ ملوحة دمعي، أخذتني قدماي إلى ما لا أعلم، ماذا لو لم أستمع لكلماتهم، لكنت الآن فرحة ومسرورة بهديتها، أنا لم أنتظر هديتها بقدر شوقي لرؤيتها، كيف لهدية أفرحتني أن تبكيني؟
لا تضيفوا روحا لكلماتكم، فأنتم تنطقون بها وغيركم تعيش معه تلك الكلمات ولن تفارقه، فالكلمة الجارحة تصبح عدوا لمن وجهت له |
بينما أنا تائهة في نفسي، إذ بي ألمح ملاكا تقترب مني، أجبرها واقعها رغم صغر سنها على التسول، طلبت مني شيئا، بحثت في حقيبتي لم أجد سوى كتاب وهي ليست بحاجة له في عمرها هذا، وعلبة الشوكولاتة فهي أغلى ما أملك حالا. أهديتها إياها و قد لاَمستُ فرحتها بها، وقد أهدتني ابتسامة أفرحتني. فالشوكولاتة عينها أبكتني وأضحكتها وشتان بين الابتسامة والدمعة، بين الحزن والفرح، بين الخير والشر. ويظل الفرق هو طريقة كلامك، فأنت تضيف القيمة للهدية و أسلوبك يصنع الفرق. العطاء فن لا يجيده إلا القليل، العطاء هو حب قبل أن يكون مالا أو هدايا، فالشيء الذي أعطي بحب يُحب ويلمس القلب، فلتجعلْ الجميع يتشبع من حبك، فأنا وأنت والجميع نملك الكثير لنعطي.
وما يجعل الهدية مميزة هو عطاؤها بكل حب، وأن كيفية العطاء تساوي أحيانا أكثر من العطاء نفسه، قد تكون ابتسامتك في وجه يتيم أجمل وأغلى هدية، قد يكون تنازلك عن مقعدك لعجوز في حافلة هو أحلى هدية، لعل عيادتك لمريض أحلى هدية، فالهدية قد تكون كلمة طيبة، قد تكون اتصالا، قد تكون نصيحة، قد تكون دعاء، قد تكون فقط إنصاتا، قد تكون ابتسامة لطيفة أو تحية خالصة من القلب لمن نقابلهم في الشارع، أما هديتي اليوم فهي خيبة بنكهة الشوكولاتة.
أكملتُ قراءة رسالتها وقد كانت حقا أجمل هدية أهداها لي القدر اليوم، العطاء هو فن وما أجمله من فن، الحب موسيقاه والابتسامة لحنه، والكلمة الطيبة هي ما يجعله فنا راقيا. فاختيار كلماتك هو الذي يجعلك أجمل فنان، نحن بقدر قوتنا ضعفاء والإنسان خلق ضعيفا، كلمة تضحكنا وأخرى تبكينا، كلمة تحلق بنا عاليا وأخرى ترمي بنا دون رحمة، ونعم الشخص الذي يحسن اختيار كلماته. لا تضيفوا روحا لكلماتكم، فأنتم تنطقون بها وغيركم تعيش معه تلك الكلمات ولن تفارقه، فالكلمة الجارحة تصبح عدوا لمن وجهت له، أرجوكم لا تنطقوا أشخاصا، لا تنطقوا أعداء، لا تنطقوا أمراضا، لا تنطقوا أكاذيب، لا تنطقوا عقدا، لا تنطقوا شرا، فلننطق حبا، أملا ، جمالا و خيرا، فنحن أمة الكلمة الطيبة صدقة، قال صلى الله عليه وسلم: "وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ"، متفق عليه، فلننطق صدقات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.