شعار قسم مدونات

لماذا الفتنة أشد من القتل؟!

BLOGS - KORAN
ما يعتمل في وجدانات الشباب العربي وعقولهم اليوم أكثر صخبا ومأساوية مما يجري في الواقع العربي. العالم من حولهم يبدو في حالة سيولة كاملة. لا شيء يمكن الوثوق به والتعويل عليه. لا الدولة، ولا الوطن، ولا الأمة، ولا العالم المتقدم، ولا النخبة، ولا الأيديولوجيات، ولا المسلمات. لا شيء من هذه المسميات يبدو اليوم في حالة صلابة حتى يعتصموا به في دوامة العاصفة. ولا أمل لديهم بالوصول إلى جزيرة الأحلام التي ركبوا إليها سفينة الثورة في عام 2011. سفينتهم التي حطمها قراصنة الثورة المضادة بكل قسوة ونذالة، فإذا هم في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض.
 
لا شيء أقسى من اليأس وانطفاء الأمل. كانت الدولة المدنية الحديثة على مرمى حجر من نضالهم، ثم فجأة تهاوى كل شيء أمام أعينهم، وخرجت من بين الغبار كائنات متوحشة قبيحة، تمتص أحلامهم ومستقبلهم في صورة تذكر بأبيات الشاعر الكفيف عبد الله البردوني: تمتصني أمواج هذا الليل في شره صموت. وتعيد ما بدأت، وتنوي أن تفوت ولا تفوت. وتقول لي مت أيها الذاوي فأنسى أن أموت.. من ذا هنا غير الأسامي الصفر تصرخ في خفوت. غير انهيار الآدمية وارتفاع البنكنوت. أهـ. لقد أتيح لنا بالفعل أن نرى انهيار الآدمية وارتفاع البنكنوت في أبشع صورها.
  

قاتلوهم حتى تمنعوا طغيانهم ومصادرتهم للحقوق والحريات، ويكون الدين شأنا إلهيا ليس من حق أحد احتكاره أو مصادرته 

هذه الحالة من اليأس والقهر واللايقين التي أصيب بها قطاع كبير من شباب الربيع العربي هي التي يطلق عليها القرآن اسم الفتنة. فالفتنة في بعض سياقاتها القرآنية ليست الاحتراب والخلاف والقتل، كما هو مدلولها في الثقافة الشعبية والخطاب الديني التقليدي. بل هي أشد من ذلك وأكبر: "وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ". البقرة 191. "وَالفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ" البقرة 217. إنها على العموم كل ما يصل بالإنسان إلى حالة من الشعور بالقهر والتيه وفقدان اليقين.

 
وأصلها المعجمي قريب من هذا المعنى، ففتنة الذهب والفضة هي تعريضهما للنار حتى يتخلصا من شوائبهما، ومن وحي هذه النتيجة جاء معناها الثاني، وهو الابتلاء والامتحان. وكأن الإنسان في نظر صانع اللغة يتخلص من شوائبه إذا تعرض للظروف القاهرة، والشبهات القاهرة. لكنه في الواقع قد يضطرب، ويفقد الأمل واليقين، إذا وقع فريسة لفتنة لا قبل له بها. ومن أبرز صور الفتنة في القرآن مصادرة حقوق الناس المدنية والسياسية: حقهم في حرية التدين، حقهم في التعبير والتغيير، حقهم في اختيار الحاكم والدستور، حقهم في الحياة الكريمة،..إلخ. فالحياة بدون هذه الحقوق ليست سوى صورة من الجحيم يهون بجوارها القتل نفسه.
    
والفتانون -من ثم- هم هؤلاء المستبدون القتلة من أصحاب السلطة والمال والتمكين الذين يلقون الناس في أخاديد القهر واليأس وفقدان اليقين. هؤلاء هم أصحاب الأخدود، القاعدون على عروشهم، يشهدون مذابح المؤمنين بالديمقراطية والحرية والحياة الكريمة. ولقد أبدى القرآن اهتماما كبيرا بمشكلة الفتنة هذه، فتوعد الفتانين بالعذاب الشديد: "إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ" البروج 10. ومنح المفتونين حق الدفاع عن حقوقهم ومقاتلة الفتانين: "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ۖ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ" البقرة 193. أي قاتلوهم حتى تمنعوا طغيانهم ومصادرتهم للحقوق والحريات، ويكون الدين شأنا إلهيا ليس من حق أحد احتكاره أو مصادرته.
  
القرآن بدعوته لمواجهة الطغيان والفتانين يرتفع بحقوق الإنسان من مستوى الحق إلى مستوى الواجب. وليس هناك شريعة دينية أو وضعية ارتفعت بحقوق الإنسان إلى هذا المستوى
القرآن بدعوته لمواجهة الطغيان والفتانين يرتفع بحقوق الإنسان من مستوى الحق إلى مستوى الواجب. وليس هناك شريعة دينية أو وضعية ارتفعت بحقوق الإنسان إلى هذا المستوى
     
إنه قتال في سبيل الحقوق والحريات، وهو سبيل الله ذاته كما بينا في تدوينة سابقة (1)، وسياق آية البقرة يدل عليه بوضوح: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" "وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۚ" البقرة 190 – 191. إنه ليس قتالا في سبيل الدين، بل في سبيل الإنسان نفسه، في سبيل حقوقه المدنية والسياسية. وهذا هو سبيل الله الوحيد. وهكذا فهمه أتباع الأنبياء من قديم: "قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا". البقرة 246. فقد وردت عبارة "سبيل الله" في سياق الحديث عن حق الدفاع عن النفس، وحرية الاعتقاد، ورد العدوان بالمثل، وردع الطغيان.
     
والقرآن بدعوته لمواجهة الطغيان والفتانين يرتفع بحقوق الإنسان من مستوى الحق إلى مستوى الواجب، وليست هناك شريعة دينية أو وضعية ارتفعت بحقوق الإنسان إلى هذا المستوى، فما بالك إذا عرفت أن المبدأ الذي تقوم عليه منظومة الحقوق السياسية والمدنية الحديثة -أعني مبدأ المساواة- هو مبدأ ديني لا فلسفي، فلا يوجد في الفلسفة ما يبرر هذا المبدأ، وذلك ما ينبغي أن يدركه المسلمون اليوم، حتى لا يجعلوا القرآن نصيرا للطغيان على الإنسان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.