دخل يحيى الصغير غرفةَ الصف للمرة الأولى، كان يشعر بأن كل الطلاب ينظرون إليه بسخرية ل "كُشَّته"؛ شعره الطويل "المنكوش" كما يحب أن يسميه. فدخل الصف قلقا وكل الطلابِ حوله شعرهم قصير، ومسرّح بالطريقة التقليدية. تذكر أنه سمع المدير يقول لوالده: عليه أن يقصص شعره كباقي الطلاب على الشاكلة نفسها. كم حزن حينها يحيى وهو لا يجد تفسيرا للتخلص من جزء منه يحبه، كشرط لقبوله في هذه المدرسة. إنه آخر يوم له مع "كشّته" التي يحبها، كل الأولاد هنا بلا "كشة"، أوه! هناك طفل يجلس في الزاوية يشبهه، ركض نحوه يحيى وجلس بجانبه.
يميل الإنسان بطبعه للتحرك نحو من يشبهه أو تجمعه به خيوط مشتركة، استحضارا لدافع الأمان والراحة في نفسه. وفكرة الجاليات في بلد الغربة، بكل ما يتصل بها من ارتباط في السكن والفعاليات والعمل هي تجلّ لهذه الفكرة. التي يمكن أن تراها أيضا في أي تجمع للعمل؛ مهنيا كان أم أكاديميا أم تطوعيا أم دعويا.
العالم في النهاية هو سلسلة من الدوائر المتشابهة فيما يجمعها من لغة وفكر ودين. وقد تتقاطع مع دوائر أخرى تختلف عنها في بعض المساحات. وهذا لا ينفي بطبيعة الحال انفتاحها أو انغلاقها عن الدوائر المختلفة عنها، وليس محور الحديث.
قد تكتشف من جولتك في مجتمعك المتجانس أنه تحركه المصالح والقوالب، لا ما يجب ويصلح أن يكون، حتى وإن كان ظاهر القول لها هو العكس تماما |
دعونا إذن نأخذ مِجهرا وندخل إلى إحدى الدوائر المتشابهة، ولنسميها "المجتمع المتجانس" -والذي اعتدت أن تكون فيه لظرف دراستك أو عملك الدعوي أو التطوعي أو المهني- أو لأقول لك؛ ولكي نكون مجردين من الحكم ولا تربطنا علائق مصلحة به، تعال لنخرج قليلا من هذا المجتمع ولتبق المجهر معك.
أمعن النظر الآن، واسأل نفسك: كيف يبدو "مجتمعك المتجانس" هذا من الداخل؟ كيف تدور حركة العمل فيه؟ وما الذي يدفعها للحركة؟ وعلى أي أساس يتم توزيع الحركة هذه بين العاملين؟ بالكفاءة الذاتية أم بصلات القرابة أم بالمعرفة مع المحرك؟ هل تسير العجلة وفق ما يجب أن يكون أم تخضع لاعتبارات القوة المحركة للدائرة ومصالحها؟ ماذا يمكن أن يحدث لأحد العاملين لو شذ عن إحدى هذه المصالح المحركة إلى ما يجب أن يكون؟ هل يستمر إمداده بالحركة للدوران أم يُنسى كأنه لم يكن؟
ابتداء لا تتفاجأ أو تنتكس بعد إتمامك هذه العملية من النظر، والتساؤل، والحرص على الإجابة بصدق. وكن واثقا أنك فعلت ما ينبغي فعله بين الفينة والأخرى، من المراجعة في مسار الطريق مما يضمن لك بيئة صحية تتسق فيها مع ذاتك.
والآن، أخبرنا عن تجربتك وماذا بدا لك؟ أما عني، فأستطيع أن أقول لك عن تجربتي، أنك قد تكتشف من تلك الجولة كما من الأشياء في مجتمعك المتجانس تحركه المصالح والقوالب، لا ما يجب ويصلح أن يكون، حتى وإن كان ظاهر القول فيها هو العكس تماما. إذ لا تبدو الأشياء في كثير من الأحيان بين المبنى والمعنى متطابقة، ثق بذلك. يبدو هنا الأمر مثيرا للسخرية بعض الشيء، أيعقل أن نجد عدم التجانس في المجتمع المتجانس؟ نعم ممكن..
ما العمل إذن؟ هل نعود هنا إلى الدائرة ونتخذ موقعا فيها؟ أم نبقى سارحين في الهواء؟ إن كنت قادرا على العودة والحفاظ على استقلاليتك وحريتك من ذاك الخبث الذي قد يكون، والمعمول به فيها بحكم اللازم، والمأخوذ على أنه شيء بدهي فيها، فعد وحاول البحث عمن تشترك معه في المبدأ والأولوية، لكن احذر من أن تقع في المثلب ذاته، علك استطعت أن تخلق حالة جديدة ولو أوتيت ثمارها بعد حين، وإلى أن يتحقق ما ترجوه فدعني أقول لك:
أن تكون مستقلا -بكل ما تحمله هذه الكلمة من معناها الحقيقي- ليس بالأمر السهل بالطبع لا أثناء التطبيق ولا في التحقيق. لكنك على الأقل ستجد ذاتك في المنصب العملي الذي تستحقه لكفاءتك، لا لصلتك أو معرفتك بفلان، ستقول الكلمة لأنك مؤمن بها، ستفعل الفعل لأنك تريده، سترضى إن لم تجد فرصا، ستأنس ولو بقيت وحيدا.. في النهاية، إلى أولئك المنسيين الذين أولويتهم السكون الداخلي وراحة الضمير، ستنالوه!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.