كيف يأمر الله بأشياء ويقضي بخلافها؟ كيف يأمرنا بالطاعة ثم نعصيه، ولا تكون هذه المعصية خارجة عن قدَر الله سبحانه، وهي مكتوبة في اللوح قبل أن نُخلق؟ كانت الإجابة عن هذا السؤال معضلة واجهتها بعض الفرق الإسلامية في مرحلة مبكّرة من التاريخ الإسلامي. ولكن بعيدا عن الخوض في معتقدات هذه الفرق التاريخية، دعونا نطرح سؤالا أساسيا: هل هناك إشكالية في السؤال الذي افتتحنا به التدوينة ابتداء حتى تكون هناك حاجة لحلّها؟
إنّ مَن يفترض وجود إشكالية في سؤال القدَر هذا يستند في ذلك إلى المنطق العقلي البشري؛ لأنّا إذا علمنا أن قاضيا بشريا كتب مسبقا حكمَه القضائي على أحد المتّهمين، ثم دعا إلى محاكمته وأتاح للمتّهم والمحامين الدفاع عنه، ثم بعد الانتهاء من المحاكمة سرد حُكمه القضائي الذي كتبه مسبقا؛ سنقول إنّ القاضي قد "ظَلَم" المتّهم لأنّه قضى بحُكمه مسبقا قبل أن يرى الأدلّة. ومن هذا المنطلق، فإنّ مَن ينفي قضاءَ الله هو في الواقع يقيسه على قضاء البشر؛ لأنّنا كبشر لا نتصوّر أن شيئا ما يكون مكتوبا من قبل ويُقضى علينا به، ثم يكون لنا اختيار حقيقي بعد هذا القضاء، ومن هنا وقع الخطأ.
في عبارة وجيزة، يحدّد الحكيم الترمذي في كتابه "نوادر الأصول" الخطأ المنهجي الذي وقعت فيه الفرق التي ضلّت في مسألة القدر وغيرها من مسائل الألوهية، يقول: "فالمشبّهة والقدرية والجبرية والجهمية وأشباههم طلبوا الله من قِبَل علم البنيةِ لا من قِبله، فضلّوا عنه". وهي عبارة موجزة تضع يدها على الأزمة الكبرى التي نتج عنها كمّ هائلٌ من الجدل في التاريخ الإسلامي، لا في مسائل القدر فحسب، بل في مسائل الصفات وقضايا الغيب عموما، ذلك أنّ هؤلاء حاولوا تطبيق قواعدهم المنطقية المبنية على سنن الكون الذي نعيش فيه على صفات الله سبحانه وأفعاله، بما في ذلك مسائل القدر.
وسنطرح مثالا لقاعدة منطقية يعرفها الكثير من الناس؛ لنبيّن أنه لا يمكن تطبيقها إلا في إطار سنن الكون الذي نعيش فيه، وهي قولهم إنّه لا يمكن وجود الشيء في مكانين مختلفين في وقت واحد. وبغضّ النظر عمّا تقوله ميكانيكا الكم الآن، نتساءل: من أين جاءت هذه القاعدة؟ إنها في الواقع لا تنطبق إلا على سنن الكون المادي الذي نعيش فيه، فلو افترضنا أنّ سنن الكون اختلفت قليلا، وأنّنا اعتدنا منذ فجر التاريخ على أنّ كل شيء يمكنه أن يكون موجودا في مكانين مختلفين في وقت واحد، فهل ستكون قاعدة امتناع وجود الشيء في مكانين مختلفين في وقت واحد بدهية؟

لا أهدف هنا إلى مناقشة مسائل فلسفية بقدر ما أهدف إلى التذكير بحقيقة مهمّة: أنّ التفكير البشري، مهما بلغت آفاقه ومهما كان صاحبه ذكيّا؛ لن يتجاوز إطار الزمان والمكان، أي لن يتجاوز ما تدركه الحواسّ من سنن هذا الكون المادي، وكل أحكامه المنطقية وقواعده العقلية لا تصلُح للتطبيق إلا على ما في هذا الكون، حتى تلك القواعد التي نظنّ أنها عقلية محضة وغير مرتبطة بسنن الكون.
فالذين أنكروا بعض صفات الله على سبيل المثال، كالسمع والبصر والعين وغيرها، زعموا أنّ إثبات هذه الصفات سيؤدي إلى القدح بتنزيه الله سبحانه؛ لأنّه سيكون حينئذ -في نظرهم- مركّبا من أجزاء، وهذا ينافي التوحيد. وقد وقع هؤلاء في تطبيق قواعد المنطق البشري على الله سبحانه؛ لأنّهم يرون أنّ إثبات السمع والبصر والعين والأعضاء للمخلوقات التي في الكون، سيجعل هذه المخلوقات "مركّبة" من أجزاء بداهةً. لقد غفلوا عن كون هذا المنطق لا يصلح للتطبيق إلا على ما تدركه الحواس في كونهم المخلوق هذا، وهم غير قادرين على إدراك كنه ذات الله وكنه صفاته سبحانه!
وكذلك الأمر في مسائل القدَر، فكيف ندرك نحن المخلوقات الضعيفة المقيّدة في إطار الزمان والمكان كيفيةَ قدَر الله الذي لا يحدّه قيد الزمان والمكان؟ بل كيف نطبّق الأزمنة التي نعرفها في حياتنا الدنيا، كالماضي والحاضر والمستقبل، على أفعال الله عزّ وجل؟ وهل أدركنا كيفية تعلّق قضاء الله بأفعال العباد حتى نجزم بوجود إشكالية في إثبات الأمرين معا؟ إنّ الحقيقة الثابتة أنّ الإنسان ينسى محدوديّة قدراته العقلية، وبأنّ هذا الدماغ الذي هو من مادة هذا الكون غير قادر على التفكير خارج إطار الزمان والمكان وسنن هذا الكون!
يقول الحكيم الترمذي في كتابه "بيان الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللبّ": "أما رأيت إنكار الضالّين كرامات الأولياء ومعراج النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظروا إليها من أهوائهم وسمّوها عقولا، وزعموا أنّ عقولهم لا تقبل هذه الأشياء، ولا يصحّ مثل هذا من طريق المعقول، فكلّ ما لا تقبل عقولهم فذلك باطل. فيا أخي كيف تُدرك بآلة مخلوقة محدَثة مركّبة ربوبيةَ خالق قدير ربٍّ عالم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد؟ ومتى يُدرِكُ شيءٌ يزيد وينقص ويتقارب ويتفاضل ربوبيّةَ رب لا يزيد ولا ينقص ولا يتغيّر حاله؟ بل العقلُ حجّة من الله تعالى على العبد، وهو آلة مركّبة لإقامة العبودية لا لإدراك الربوبية".
المسلم العاقل يجمع بين علم الله بكل شيء وأنّه سبحانه كتب كل شيء من جهة، وبين اختيار العبد الحرّ ومحاسبته على ما كسبَ في الدنيا بعدل من جهة أخرى. فلا يعقدُ التناقض بين الأمرين إلا مَن يَعتبر عِلم الله كعِلم البشر |
وهذه العبارة الأخيرة التي ذكرها تشكّل مفتاحا مهمّا لفهم كيفية التعامل مع قضية القدر؛ فالعقل البشري مكلّف بإقامة العبودية، وهو ينظر في حقيقة نفسه فيجد نفسه مريدا قادرا على الاختيار، يقع أمام سطوة الأهواء فيرتكب المعصية تارة، ويذكر ربّه فيصمد أمامها تارة أخرى، فيعي حريّة اختياره ويعي تحقق الإرادة له.
ثم إنّ الإنسانَ ينظر في نصوص القرآن، فيقرأ قوله سبحانه: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}. فلا يفكّر في كيفية ذلك؛ لا في كيفية الكتاب ولا في كيفية تعلق هذا القدَر بما يحدث في الأرض، فهذا كلّه مما لا يمكن لعقله أن يستوعبه؛ لأنّه فوق قدراته. ولكنّه ينظر في مادة العبودية المستفادة من الآية، فيجدها في الآية التي تليها محقّقة واضحة: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}. فحين تصيبك مصيبة تصبر وتطمئنٌّ إلى قضاء الله وترضى بمشيئته، وإذا أصابك خيرٌ فلا ينبغي أن تنسى ربّك وتُصاب بالفخر والاختيال، بل تذكر أنّه من عند الله وتشكره عليه. وقد جاء عن ابن عبّاس هذا المعنى التعبّدي المستفاد من الآية إذ قال في ما رويَ عنه: "الصبر عند المصيبة، والشكر عند النعمة".
وكذلك الآيات التي تُشْكِل على بعض الناس، كقوله تعالى: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ}، فينسب بعض الجهلةِ الظلمَ إلى الله سبحانه وتعالى. فلو تتبّع هؤلاء السياق الذي جاءت فيه هذه العبارة من الآية، وخبِروا أساليبَ العربية؛ لأدركوا المعنى المراد. فقد نزلت الآية في قوم من اليهود جاء وصفُهم في الآية على النحو التالي: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
فهؤلاء قومٌ حرّفوا الكلِمَ من بعد وضْعِه مواضعَه، ويقولون إنْ أفتاكم الرسول في حكم الزاني المحصن بالجلد والتحميم فاقبلوا منه، وإنْ أفتاكم بغيره (أي الرجم) فاحذروا أن تقبلوه. هذا وهُم يعلمون أنّ حكم الزاني المحصن في كتابهم الرجم. وخلاصة الأمر أننا أمام قوم يقصدون إلى التحريف والزيغ عن الحق، وهذا موقف اختياري أدى بهم إلى الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلّم، ولم يظلمهم الله عزّ وجلّ حين قال {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُم}، فهذا هو حال قلوبهم حقّا، فهي قلوبٌ لا تطلب الحقّ بل تزيغ عنه.
والآيات في تأكيد هذا المعنى كثيرة، منها قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}. فإنّما زادهم الله مرضا لِما فعلوه من مخادعة وانحراف قلبي زاغوا به عن الحقّ. وكذلك قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}، فكان الطبع جزاء بما كسبوا من استخفافٍ بكلام الرسول مع اتّباعهم لأهوائهم.

وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ۚ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}، فلم يظلمهم الله سبحانه بذلك، بل ظلموا أنفسهم بما كانوا يفعلون. كما قال سبحانه بعد أن قصّ أنباء القرى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ}. وكما قال مطلقا: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}. والآيات التي تؤكّد بأنّ الله عزّ وجلّ يجزي الكافرين بالنار {بما كانوا يكسبون} عديدة، وهذه وغيرها معنى مُحكَمٌ في كتاب الله، يعقله المسلم ويرى حرية اختيار الناس وإرادتهم في الدنيا، فلا ينبغي أن يشكّ للحظة بأنّ الله سبحانه عادل لا يظلم أحدا، والله عزّ وجلّ هو القائل: {فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}. وهو معنى واضح صريح يعقله الإنسان، ويعلم بأنّه مكلّف مختار يُحاسَب على عمله واختياره.
يرى بعض الناس أنّ هناك نصوصا إشكالية في السنّة تضعنا في مأزق في قضية القدر، وأنّه يجب ردّ هذه النصوص. والحقّ أنّ ما في هذه النصوص هو من جنس ما في كتاب الله، كقوله تعالى {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.
ومن هذه النصوص ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: "أنَّهُ كانَ في جنازَةٍ، فأخذَ عودًا ينْكُثُ في الأرضَ فقالَ: ما منْكُمْ من أحدٍ إلا وقدْ كُتبَ مقعدُهُ من النارِ، أو من الجنةِ. قالوا: يا رسولَ اللهِ أفَلا نَتَّكِلُ؟ قالَ: اعمَلوا فكلٌ مُيَسَّرٌ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسْرَى} – إلى قولهِ – {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلعُسْرَى} الآيةَ" (صحيح البخاري)
وأخرج بن حبان في صحيحه: "أنَّ سراقةَ بنَ جُعشُمٍ قال: يا رسولُ اللهِ أخبِرْنا عن أمرِنا كأنَّا ننظُرُ إليه، أبما جرَتْ به الأقلامُ وثبَتَت به المقاديرُ أو بما يُستأنَفُ؟ قال: "لا بل بما جرَتْ به الأقلامُ وثبَتَت به المقاديرُ". قال: ففيمَ العملُ إذًا؟ قال: "اعمَلوا فكلٌّ ميسَّرٌ". قال سراقةُ: فلا أكونُ أبدًا أشدَّ اجتهادًا في العملِ منِّي الآنَ".
وفي صحيح مسلم: "إنَّ رجلَينِ من مُزَينةَ أتيا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فقالا: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ ما يعمل الناسُ اليومَ ويكدَحون فيه، أشيءٌ قُضِيَ عليهم ومضى فيهم من قَدَرٍ قد سبق، أو فيما يَستقبلون به مما أتاهم به نبيُّهم وثبتتِ الحُجَّةُ عليهم؟ فقال: "لا، بل شيءٌ قُضِيَ عليهم ومضى فيهم. وتصديقُ ذلك في كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ: {وَنَفْسِ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}".
الإنسان ذرّة صغيرة في كون محدود، مقيّد بقيود الزمان والمكان، فأنّى له أن يدرك سرّ قدَر الله الذي {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}؟ |
فهذه الأحاديث وغيرها لا تُقرأ بمنطق "رياضيّ" يقيسُ أفعال الله وعلمَه وقضاءه على ما يَعلم من قوانين البشر، فيظنّ أنّ كتابَة كلّ شيء قبل خلقه، بما في ذلك مَن يدخل الجنّة ومَن يدخل النار، هو من جنس الجبر؛ لأنّه لا يتصوّر أن يكون لإنسانٍ معرفة يقينية بما سيحصل مع مجموعة من الناس إلا لو كان قد ألزمهم بفعل ذلك، أو كانوا قد اتفقوا معه على تمثيل هذا المشهد الذي يُضطرّون للالتزام به كي يعلم ذلك الإنسان بما سيحصل يقينًا. ولكن مَن قال إنّ علم الله هو من جنس علم الإنسان؟ إنّ الأمرَ كما قلنا ينتج عن التعامل مع صفات الله وأفعاله بقوانين هذا الكون وحدود المعرفة البشرية.
إنّ القدَر الذي لا يمكننا استيعابه هو القدَر المحدود في الزمان والمكان، ولهذا يجد بعض الناس صعوبة في فهم هذه النصوص، ويدفعهم جهل حدود العقل البشري إلى تأويل هذه النصوص وصرفِها عن حقيقتها. ولكن قدَر الله مطلقٌ عن قيد الزمان والمكان، هو القدَر الذي تكون اختياراتُنا وأفعالُنا جزءا منه، ولهذا نجد في الحديث كما في سنن الترمذي: "أنَّ رجُلًا أتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسولَ اللهِ أرأيتَ رُقًى نَسترقيها ودواءً نتداوَى به وتقاةً نتَّقيها هل تردُّ من قدرِ اللهِ شيئًا؟ فقال: "هيَ من قدرِ اللهِ".
والمسلم العاقل يجمع بين علم الله بكل شيء وأنّه سبحانه كتب كل شيء من جهة، وبين اختيار العبد الحرّ ومحاسبته على ما كسبَ في الدنيا بعدلٍ من جهة أخرى. فلا يعقدُ التناقض بين الأمرين إلا مَن يَعتبر عِلم الله كعِلم البشر، وقضاءه كقضاء البشر، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا!
والعاقل لا يكتفي بذلك، بل لمعرفته بأنّ النصّ القرآني والنبوي يحمل "خطابًا" هو محلّ الفائدة والتدبّر، لأجل ذلك يقتنص فائدة الخطاب ويُعرض عن التعمّق في ما لا يمكن للعقل إدراكه. وكلّ حديث من هذه الأحاديث فيه خطابٌ موجّه إلى المتلقّي هو الغاية الأساسية من النصّ. فهي تورث المؤمن تذكيرا بالآخرة وبعلم الله الذي يعلم كل شيء، مع التوجيه للعمل ومنع التواكُل. وفي الحديث الثاني وجدنا كيف كانت استجابة الصحابي الجليل سراقة إذ قال: "فلا أكونُ أبدًا أشدَّ اجتهادًا في العملِ منِّي الآنَ"!
وقد تفطّن الإمام النووي في "رياض الصالحين" إلى هذا الأمر، فنجده يضع في "باب الخوف" الحديث الذي فيه: "فوالذي لا إله غيره، إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنّة فيدخلها". وذلك لأنّ الحديث يورثُ في قلب المسلم الخوفَ من الله والتعلّق به سبحانه ودوام رجائه، فلا يغترّ بإيمانه، بل يُدرك أنّ الهداية والتثبيت من الله سبحانه. ومن تيقّن من عموم مشيئته سبحانه وتدبيره لجميع الأشياء صار قلبه نازعا إليه سبحانه، ذاكرا له في كلّ حين، فهذه هي الفائدة الأساسية من الخطاب النبوي لمن يقرؤه بقلب متبصّر مدركا لحدود العقل والطبيعة الإنسانية.
وخلاصة الأمر أنّ هذا الإنسان ذرّة صغيرة في كون محدود، مقيّد بقيود الزمان والمكان، فأنّى له أن يدرك سرّ قدَر الله الذي {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}؟
إنّ ما يستفيده العقلاء من نصوص القدَر والمشيئة والهداية والإضلال أمور من أهمّها:
– الفائدة الأولى: دوام تعلّق قلوبهم بالله سبحانه، وذلك حين يؤمنون بعموم مشيئته وتدبيره، وبهدايته وإضلاله، وبأنّه هو مثبّت القلوب، فيداومون على ذكره ودعائه ورجائه. ومن هنا وجّه النبيّ صلى الله عليه وسلّم أمّته إلى الدعاء، فقد أخرج الحاكم في "المستدرك" أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "لا يُغني حذرٌ من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإنّ البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة". وفي سنن الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: "لا يردُّ القضاءَ إلَّا الدُّعاءُ".

– الفائدة الثانية: استقرار نفوسهم وطمأنينتها حين يدركون أنّ ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وأنّ ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم. وهذا الإيمان يزيد من فاعلية النفس الإنسانية، ويساعدها على الصبر والتخلّص من التحسّر على ما فات حين ترضى بقضاء الله. وانظر كيف كان الصحابة يستفيدون ذلك من هذه الأحاديث، ففي سنن أبي داود: "قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إنّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ! قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ". يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي". وفي صحيح مسلم أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: "المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللَّهِ منَ المؤمنِ الضَّعيفِ، وفي كلٍّ خيرٌ، احرِص على ما ينفعُكَ، واستِعِن باللَّهِ ولا تعجز، وإنْ أصابَكَ شيءٌ فلا تقُل: لو أنِّي فعلتُ كان كذا وَكَذا، ولَكِن قل: قدَّرَ اللَّهُ وما شاءَ فعلَ، فإنَّ لو تَفتحُ عملَ الشَّيطانِ".
– الفائدة الثالثة: التخلّص من تردّد النفس ومن ومخاوفها المستقبلية حين تتوكّل على الله، فمن شأن التوكّل على الله حقّ التوكّل أن يبني شخصية صلبة متّزنة، لا تجزع لأي مخاوف مستقبلية، ولا تحرق أعصابها أو ترتكب المخالفات في سبيل البحث عن الرزق، وانظر إلى جمال التعبير النبوي حين وصف المتوكّل على الله حقّ توكّله بالطير: "لَو أنَّكُم كنتُم تَوكَّلُونَ على اللهِ حقَّ تَوكُّلِهِ لرُزِقْتُمْ كما تُرزَقُ الطَّيرُ؛ تغدو خِماصًا، وتروحُ بطانًا" (سنن الترمذي). فانظر إلى طمأنينة هذه الطيور واتّزانها.
– الفائدة الرابعة: التخلّص من غرور النفس الذي يُنسيها فضلَ الله عليها. فالإنسانَ إذا اغترّ بعمله وقدُراته ونسيَ فضلَ الله عليه؛ تضخّمتْ نفسه وانتفشتْ، وصارت مؤذية لمن حوله ومهلكة له. وأمّا إذا شكر الله، وتذكّر بأنّ ما يكسبه من خير هو من عموم مشيئته وتقديره سبحانه؛ ساهمَ ذلك في غرْس التواضع في نفسه. أخرج مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: "عجبًا لأمرِ المؤمنِ، إنّ أمرَه كلَّه خيرٌ، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمنِ؛ إنْ أصابته سرّاءُ شكرَ، فكان خيرًا له، وإنْ أصابته ضرّاءُ صبر، فكان خيرًا له".
هكذا يصوغ الإيمان بالقدر شخصيّة دائمة التعلّق بالله ودائمة الدعاء له. مطمئنّة متّزنة، لا تجزع من المستقبل المجهول ولا تقتلها الحسرة على أحداث الماضي. لا يستبدّ بها القلق ولا تخشى الناس. مريحة لمن حولها، لا تتعالى على الناس بإنجازاتها ومنصبها ولا تقع في عبادة الذات. هذه هي "الأسرار" التي ينبغي أن يكتشفها كل من يتدبّر مسألة القدَر في كتاب الله وسنّة رسوله، فهي الأسرار التي تنفعه في الدنيا والآخرة، فأمّا سرّ كيفية القدَر فهو محجوب عن هذه الذرّة الصغيرة التي تسمّى الإنسان!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.