شعار قسم مدونات

في حُبّ مصر

blogs معرض الكتاب

قبل ما يقربُ من أربعين عامًا، في صباحٍ آذاريٍّ دافِئ، كانتْ أمّي تُعدّ لي الفَطور، وتغلي الحليب مع شيءٍ من الكعك، قبل أنْ تُهيّئني تمامًا للذّهاب إلى المدرسة، كانت المدرسة هي: "مدرسة عبد العزيز جاويش"، كان ذلك في القاهرة في مدينة نصر، في حيّ رابعة العدويّة، في الطّابق الحادي عشر من عمارةٍ قديمةٍ تستقرّ في أسفلها (أمّ السّيّد) الّتي تخبز (العيش) الذي كنتُ أشتريه لعائلتنا، ساخِنًا حارًّا، شهيًّا، وأتلذّذ بطعمه مهما كان مخلوطًا بالقشّ وبعضِ الأخشاب الصّغيرة أو الحصى.

 

حدث ذلك في نهاية السّبعينيّات من القرن المنصرم، عندما كان السّادات يظهر على الشّاشة واضِعًا غليونه في زاوية فمه في خطاباته المُتلفَزَة، يشدّ على بعض الحروف، نابِرًا بعض الكلمات بطريقة تمثيليّة استعراضيّة لا شكّ أنّها عاشتْ في ذاكرتي إلى اليوم، وهو يحاول أنْ يتخلّص من عقدة عبد النّاصر في شعبيّته الطّاغية، بالتّعويض عن ذلك ببطولاته وأمجاده في حرب الـ (73) الّتي كرّس فيها نفسَه بطلاً مُطلقًا استطاع أنْ ينتصر على عدوٍ خرافيّ في معركةٍ أسطوريّة.

 

كلّ ذلك في ذلك الصّباح يعتمر الآن في ذاكرتي من أجل أنْ أصوغ هذه العبارات الّتي تنفلتُ من بين مسارب القلب. أمّي تعود إلى الحليب، تسكبه في كأسٍ بلّوريّة صافية فيزداد صفاءً، وأنا أشربُ من أجل أنْ أكبر، ولا شكّ أنّه ما من أحدٍ منّا كبر دون أنْ تكبر معه هموم الحياة، وتزداد تشعّبًا. ازدياد الوَعي يعني اتّساع رقعة الحُزن.

ستتغيّر الأحوال، وتتبدّل الوقائع، وتصير المُجريات إلى ما فيه الخير، لكي نعود أمّةً قارِئةً بحقّ، فما من أمّة قارئةٍ تجوع، وما من أمّةٍ قارئةٍ تُستعبَد

كان صباحًا جميلاً بكلّ ما فيه لولا أنّ أمّي راحتْ تُلبسني لِباس طلبة الابتِدائيّ المُوحّد الّذي كان أقرب إلى التنّورة، إنْ لم يكنْ كذلك بالفعل، وعلى الصّدر تتدلّى (كرافتة) زرقاء، تُشبه تمامًا تلك الّتي تتدلّى على صدور الصّغيرات الذّاهبات في الصّباحات الباكرة إلى ذات المدرسة. وأنتفض، وأصرخ لأنّ ذلك اللّباس لا يُناسبني، وتستيقظ فِيّ الرّجولة مرّةً واحدةً، فَجّةً غليظةً، وأرفض أنْ أنصاع إلى توسّلات أمّي من أجل أنْ يمضي ذلك اليوم على خير، متذرّعًا، بأنّ هذا (المريول) لم يُصنع لرجلٍ مثلي. وتحتاج أمّي ربّما إلى نصف ساعةٍ بكلّ ما تملك من كلماتٍ ودودة من أجل أنْ تقنعني بالأمر.

 

ويُقرَع جرس الحِصّة الأولى، وأُساق إلى المدرسةِ سوقًا. وفي الصّفّ تستقبلني أبلة (سُعاد) لأنّ فِيّ رائحة فلسطين، والنّهر المُقدّس كما كانت تقول، كأنّني أوّل القادمين لا آخرهم، كانتْ تنتظر صبيًّا هائِمًا مثلي من أجل أنْ تكتمل الجوقة المؤلّفة من طلاّب الصّفّ وطالِباته لنبدأ النّشيد الجماعيّ، الّذي يُوقِظ الآن الحنين، ويمسح الغبار عن الوطن، ويحنو على القلب الطّعين، ونهتفُ كأنّما نصطفّ في معركةٍ لا صفّ، ونقف أمام قائدٍ عسكريّ لا مُعلّمةٍ حَنون:

 

بِلادي  بلادي اسْلَمِي وَانْعَمِي

سَأرويكِ حينَ الظّما مِنْ دَمِي  

 

أتذكّر ذلك اليوم، لأنّني ما نسيتُه كلّما زرتُ القاهرة فيما بعدُ، فيها رَبِيتُ طِفلاً، ورزتُها في مطلع شبابي، وها أنا في كهولتي لا أستطيع أنْ أفارقها إلاّ لكي أعودَ إليها في كلّ عامٍ، فلماذا كان حُبّ الأوطان ذابِحًا إلى هذا الحدّ؟! ولماذا يفعل بنا كلّ ذلك، ونحن نرى أنّ أسياده الجاثمين على صدورنا أذاقونا أنواع الأذى، والجوع، والضّيم، والهَوان، واضطرّونا إلى المنافي، وألجؤونا إلى الكُفر بكلّ شيءٍ، أكان على السّادة والقابضين على عنق الأوطان أنْ يكسروها أو يكسرونا ليظلّوا جالسين على كراسيّهم المركوزة على عِظامنا، وجِلدنا، وعيوننا المفقوءة.

 

مع كلّ ذلك الّذي نقوله من حبّنا لمصر، وحُبّنا للكتاب، نقول: إنّ روّاده ما زالوا يُثبِتون رغم الإهمال الظّاهر بوجهٍ عامٍ في كلّ مرافقه، أنّهم تجاوزوا كثيرًا من ضعفِ التّنظيم، وأنّهم كانوا أكبر من المُعيقات
مع كلّ ذلك الّذي نقوله من حبّنا لمصر، وحُبّنا للكتاب، نقول: إنّ روّاده ما زالوا يُثبِتون رغم الإهمال الظّاهر بوجهٍ عامٍ في كلّ مرافقه، أنّهم تجاوزوا كثيرًا من ضعفِ التّنظيم، وأنّهم كانوا أكبر من المُعيقات
 

ها أنذا في معرض الكتاب في القاهرة، أنظر فأرى البريق في العيون رغم البؤس، والإرادة رغم الوَهْن، والرّضى رغم رماد الغضب، والمُضيّ في الدّروب رغم الخوف. معرضُ القاهرة الّذي يُعدّ الأوّل في العالَم العربيّ من حيثُ السّعة والجمهور، والثّاني عالَميًّا ربّما بعد معرض فرانكفورت، لا يظهر بالمستوى الّذي يرتقي إلى مكانته وسمعته وتاريخه الطّويل؛ ما من لافتاتٍ تدلّك على دور النّشر، وما من خريطةٍ تُنبِئكُ بكلّ جناحٍ وما يضمّه من كنوز، والخِيَم تنتشر بشكلٍ عشوائيّ، والأمور كأنّها في مزادٍ في سوقٍ للخُضار، والأوساخ تملأ الطّرقات، والدّروب المُوصِلة إلى مبتغاك من الكتب مليئة بالأتربة، لا ممهّدة ولا مبسوطةٍ ولا نظيفة، يختلط الحابل بالنّابل، والرائح بالغادي، فلا تكاد تعرفُ لكَ رأسًا ولا قدمًا، ولا وجهًا ولا قفًا!!

 

ومع كلّ ذلك الّذي نقوله من حبّنا لمصر، وحُبّنا للكتاب، نقول: إنّ روّاده ما زالوا يُثبِتون رغم الإهمال الظّاهر بوجهٍ عامٍ في كلّ مرافقه، أنّهم تجاوزوا كثيرًا من ضعفِ التّنظيم، وأنّهم كانوا أكبر من المُعيقات، وأنّ أولئك الّذين توافدوا من مختلف المحافظات والمناطق بكلّ ألوانهم وتقاسيم وجوههم هم وجه هذه المعرض البهيّ البهيج، وهم وردته النّاضرة، وياسمينه الشّذيّ.

 

إنّ هذه الأفواج الّتي تراها من الشّباب في العشرينات من أعمارهم لتدلّ على أنّ الأمّة ما زال قلبُها نابِضًا رغم الموت الّذي سيقوا إليه، وما زالتْ روحها حيّة، توّاقة إلى المعرفة رغم الضّيق الّذي عانَوا منه، وعلى هؤلاء معقد الأمل في المستقبل، وعلى أكتافهم شبابًا واعِيًا قارِئًا حصيفًا ستتغيّر الأحوال، وتتبدّل الوقائع، وتصير المُجريات إلى ما فيه الخير، لكي نعود أمّةً قارِئةً بحقّ، فما من أمّة قارئةٍ تجوع، وما من أمّةٍ قارئةٍ تُستعبَد، وإنّه قد قيل: "أنْ يقرأ النّاس كتابًا يعني أنْ تُغلق الدّولةُ سِجنًا".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

إعلان