لطالما كان يعتريني في صغري وخلال نشأتي نوع من الإحساس بالاختلاف عن بقية الأطفال من حولي، وكلما مضت الأيام بدا ذلك الاختلاف جليا، فبينما كان الأطفال من حولي في قمة السعادة بإشعال البيت بفورة من الحماس والصراخ تتعالى فيه ضحكاتهم وصرخاتهم، كنت أفضل تلك الألعاب التي جلبها لي والدي ولم أمانع ببعض من الصحبة الهادئة نبني فيها البيوت من مكعبات الليغو أو من الوسائد، نجتمع تحتها يملؤها صدى أحاديثنا عديمة المعنى والمغزى المفعمة بالحماس من تلك الأفواه بفراغاتها التي خلفها تساقط بعض أسناننا اللبنية، وعندما لا يتوفر ذلك الصديق ويثور المنزل في موجة من الصراخ الطفولي كنت أنزوي وأختار مجالسة والدي مع ضيوفه وأظل صامتا لساعات أقلب ناظري بين الوجوه والأفواه الناطقة بكلمات لا أفهمها، ولكنها كانت نقاشات حادة تبدو الجدية على بعضها والأسى على بعضها الآخر.
الأمر الذي كان مربكا لوالدَي في البداية لطفل لا يخالط الأطفال ويفضل التجمعات الصغيرة منها ويفضل نقاشات الكبار المملة على الهستيريا الطفولية بحماسها وعنفوانها، لكن على ما يبدو أنهما قررا ترك الأمور تسير كما هي من دون تدخلهما وإجباري على نوع معين من النشاطات. في الحقيقة التدخل الوحيد كان متابعتهما لما أحب من نشاطات فبين كرة القدم ومكتبتنا العامرة بالكتب ومجلات الأطفال والقصص ترعرعت ونشأت، وها أنا اليوم نتاج ذلك الطفل الذي ربما يحب ويحلو لبعضهم وصفه بصفات كالانطوائي المنعزل أو ربما أشد قسوة كالمتوحد والمنغلق.
فإذا كنت من الأشخاص الذين يفضلون نهاية أسبوع هادئة بصحبة كتاب أو مشاهدة فيلم وحيدا أو بصحبة عدد محدد من الأصدقاء، أو إذا كنت من الأشخاص الذين يفضلون التدرج في علاقاتهم والاكتفاء بعدد معين ومحدد من الأصدقاء، أو إذا كنت من الأشخاص الذين لا يحبذون الأماكن المزدحمة ويفضلون تلك الحوارات العميقة بدلا من الدردشة الجماعية، فمرحبا بك في مجتمع الانطوائيين، وهو غالبا ما ستوصف به.
الخجل هو الخوف من عدم القبول، الرفض أو الحرج، بينما الانطوائية هي تفضيل بيئة أكثر هدوءا، الخجل هو شعور مؤلم ومزعج بينما الانطوائية ليست كذلك |
الحقيقة التي أدركتها مؤخرا هي أني محظوظ بوالدين كوالدي، الأمر الذي ربما لن يكون متاحا لكل طفل أو شخص يعتبر من هذه الفئة. فالشخصية الانطوائية يعتبرها الكثيرون نوعا من المرض النفسي خالطين بينها وبين حالات أخرى ربما تستدعي التدخل الملزم، قد تكون ناتجة عن جهل بعض الآباء أو خوفهم على أبنائهم وهم يشاهدونهم يفضلون قراءة كتاب على الخروج في أحد الأيام المشمسة، الأمر الذي يجعل الأهل يصابون بنوع من الهلع على مستقبل أبنائهم، وهو نتاج لنظرة المجتمع المرضية لهذا النوع من الشخصيات، تلك النظرة التي تبجل الانفتاح والتجمع وتعتبر الخلوة بالنفس والانعزال نوعا وضربا من ضروب الضعف والنقص والمرض، وتنظر لأصحاب هذه الشخصية بنوع من الشفقة والعطف لعدم قدرتهم، حسب ظنهم، على الاندماج في المجتمع والتمتع بحلاوة اللقاء البشري والحديث الممتع، فيقومون بدور الوصي محاولين دفع أصحاب هذه النزعة الانطوائية دفعا إلى ما يعتبرونه طبيعيا في نظرهم، غير مدركين خطأ ما يقومون به ولو كانت نيتهم صافية طيبة.
توضح الكاتبة الأميركية سوزان كين في كتابها "الهدوء: قوة الانطوائيين في عالم لا يتوقف عن الكلام" الخطأ الذي يقع فيه كثيرون من الناس بخلطهم بين الانطوائية والخجل فتقول: "الخجل هو الخوف من عدم القبول الرفض أو الحرج، بينما الانطوائية هي تفضيل بيئة أكثر هدوءا، الخجل هو شعور مؤلم ومزعج، الانطوائية ليست كذلك".
الأمر الذي يجعل الشخصية الانطوائية تعاني في مجتمع ينظر إلى الشخصية الانطوائية كنوع من الضعف أو المرض أو الخلل النفسي نتيجة تلك المفاهيم المغلوطة، وسواء كنت من ذوي هذه الشخصية أو لا فإن الجهل المصاحب لهذه المفاهيم سيكون تأثيره كارثيا، إذ تُبين الدراسات أن واحدا من كل ثلاثة أشخاص قد يكون ذا شخصية انطوائية وقد يزيد العدد هذا باختلاف المجتمعات وتبجيلها للصفات الانبساطية التي تعتبرها نوعا من الشجاعة أو الإقدام، وتنصيبهم كقادة على المجتمع، واعتبار أن الشخصية الانطوائية على العكس تماما ضعيفة الشخصية ومهزوزة ولا تصلح لأي نوع من المناصب التي تحتوي على نوع من القيادة واتخاذ القرار، الأمر الذي وضح عدم صحته على يد شخصيات كانت تصف نفسها بالعزلة والانطوائية ساهمت في تغيير التاريخ كألمهاتما غاندي، وهو ما تؤكده سوزان كين في كتابها المثير ضاربة أمثلة على تلك الشخصيات.
تلك النسبة التي تعني أنه حتى ولو لم تكن انطوائيا في نفسك فسيكون بلا شك أحد المحيطين بك من ذوي هذه الشخصية إما أخا أو أبا أو ابنا، الأمر الذي سيلزمك للتعامل بنوع مختلف معها، بينما ستنتج الكثير من المشاكل بسبب التعامل الخاطئ سواء على الشخصية نفسها أو على الأسرة ككل، الأمر الذي قد يكون نعمة في حد ذاته إذا ما تم التعامل معه بطريقة صحيحة، فالشخصية الانطوائية شريك وصديق وزميل جيد إذا ما بنيت الثقة، والانطوائي غالبا ما يختار من يجالسه أو يشاركه بعناية ولكنه في الوقت نفسه شريك لا يتخلى عن شريكه أو صحبته بسهولة.
تختلف الشخصية الانطوائية عن الشخصية الانبساطية أو الانفتاحية بالتركيب والوظيفة واستجابة الجهاز العصبي للمؤثرات الخارجية، فبينما يميل الشخص الانفتاحي إلى وسط أكثر صخبا وإلى التجمعات الكبيرة من البشر، يفضل الشخص الإنطوائي الأوساط الأكثر هدوءا والتجمعات الأقل تجمهرا والحوارات العميقة التي تكون بين شخصين أو بين مجموعة محددة من الناس، ولذلك ستجد كثيرا من الانطوائيين يفضلون الاستماع إلى الحديث، ولكن إذا ما طلب منهم إبداء رأي وكان الموضوع ذا خلفية قامت بشده أو جذبه، فقد يفاجأ الكثيرون بذلك الرد أو النقاش العميق الذي يمكن أن يخرج من شخص كان البعض لا يعيره اهتماما، ظانا أنه ضعيف الشخصية أو ليست له قدرة على إبداء رأي.

هي ليست دعوة لإقصاء الطرف الآخر أو تفضيل شخصية على أخرى فلكل شخصية مزاياها، محاسنها ومساؤوها، ولكنه تذكير بأن المجتمع يحتاج لكلا النوعين من الطرفين، فبين صفات الشخصية الانفتاحية التي تميل إلى الحماس والتسرع في اختيار القرارات، يحتاج الأمر إلى شخصية متريثة تعيد التوازن بعد دراسة دقيقة للمواضيع وتحليلها تحليلا دقيقا غير متسرع، الأمر الذي قد تستفيد منه جميع المصالح العامة الحكومية والخاصة.
فروق من المهم الاطلاع عليها سواء أكنت من أصحاب هذه الشخصية أو تلك، ولكنها مهمة لاستمرار التعايش على الصعيد البشري، الأسري منه والاجتماعي، فالشخصية الانطوائية كغيرها من الشخصيات تختلف في تعاملها واستجابتها لبعض الأمور والقيام بها بطريقة مختلفة نوعا ما، الأمر الذي يغير الكثير من المفاهيم المغلوطة التي تحيط بأصحابها كالوحدة وعدم استحسان الصحبة والميل إلى الكآبة والحزن وعدم حب الاستمتاع وعدم حبه للناس، أو أنه شخصية غريبة تقوم بأفعال غريبة وفظة، وسيكون كتاب سوزان كين بداية مهمة لفهم تلك الفروق ولتقدير شخصيات كانت تصف نفسها بالعزلة والانطوائية، قدمت للبشرية بعض أعظم إنجازاتها وإبداعاتها كالنظرية النسبية لاينشتاين، و "مزرعة الحيوان" و "1984" لجورج اوريل، وكذلك "اليس في بلاد العجائب" لتشارلز لوتويدج، وجهازالحاسوب الذي تقرؤون على شاشته هذا المقال.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.