شعار قسم مدونات

معايير الإيمان عند الصدّيق

blogs الصديق

"لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم".. لقد كان أبو بكر رضي الله عنه هو أول الرجال إيمانا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان أسرعهم إليه تصديقا حتى سُمّي الصديق، هو الذي صدق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى "وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ"، وهو "الأتقى" معرفا بالألف واللام في قوله تعالى "وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى"، وهو "ثاني اثنين" و "صاحبه" في قوله تعالى "ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا".

 

فهي الصحبة الوحيدة التي أثبتها القرآن نصا ومعنى، هو من قال الله تعالى فيه "وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ"، فأثبت الله أنه من أهل الفضل، وفيه نزلت "لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا"، وهو -والفاروق- "صالح المؤمنين" في قوله تعالى "وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ"؛ قدمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يرتض بغيره لإمامة المسلمين في الصلاة في حياته، وغيرها الكثير من الشواهد على تقدم الصديق على بقية الصحابة والأمة جميعها في الإيمان وتمكنه في القلب، إلا أن هذا الإيمان النابع من القلب كان له شواهد عملية لم تُمنح لرجل غيره في الأمة، بل وفي تاريخ البشرية جمعاء فيما دون الأنبياء، نفرد بعضها فيما يلي: 

معيار الثبات

من أقوى مظاهر الإيمان هو الثبات عند الشدائد والمحن والابتلاءات، وما ابتُلي المسلمون بشيء أعظم من وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي لم يتحملها أحد ولم يتقدم لقيادة المسلمين وجبر كسرهم بعد هذه المحنة أحد إلا الصديق على الرغم من كونه أقرب الناس صحبة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأكثرهم حبا له وأرقهم قلبا وأسرعهم بكاء، لكن قوة إيمانه كانت تكفيه للقيام بهذا الدور؛ الدور الذي يصعب على ذوي العقول أن يفهموه، كيف للأقرب أن يعزي ويثبت الأبعد وقت المحنة؟

 

حينما امتنع المرتدون عن الزكاة؛في هذا الموقف يظهر بكل وضوح أن إيمان الصدّيق يرجح بإيمان الأمة كلها بما فيها عمر الذي عاتب الصدّيق على عزمه على قتال مانعي الزكاة
حينما امتنع المرتدون عن الزكاة؛في هذا الموقف يظهر بكل وضوح أن إيمان الصدّيق يرجح بإيمان الأمة كلها بما فيها عمر الذي عاتب الصدّيق على عزمه على قتال مانعي الزكاة
 

خرج خاطبا في الناس بكل قوة "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا"؛ إن الثبات من معايير الإيمان كما أخبر الله بذلك "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ"، وقد فاق إيمان أبي بكر إيمان بقية الصحابة، فثبت وثبتهم معه بعد هذه الزلزلة العنيفة التي أصابت قلوبهم وعقولهم.

معيار الاتباع

"قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ"، هكذا كان الاتباع منهجا قرآنيا لا ينبغي للمؤمن أن يحيد عنه، إلا أن الصدّيق كان معيار الاتباع عنده مختلف، لم يفهمه حتى الصحابة الذين اجتمعوا حوله ليثنوه عن عزمه عن إنفاذ بعث أسامة بن زيد وهو يقول بقوة المؤمن الذي يرى الحق أبلجا كفلق الصبح لا يستطيع أحد أن يثنيه عنه "والله لا أحل لواء عقده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولو أن الطير تخطفنا، والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين، لأجهزن جيش أسامة"، والناس حوله يقولون له: "إن هؤلاء جلّ المسلمين، والعرب على ما ترى قد انتقضت بك، وليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين"، وهذا ما قد يفكر به كل من يُحكّم عقله قبل إيمانه، إلا أن إيمان الصديق يصعب على العقول البشرية القاصرة فهم كنهه ومدى تحكمه في نفس الصدّيق وفي عقله وفي كيانه كله.

 

وهذا ما ميزه عن بقية الأمة بما فيها عمر الذي كان من جملة من أشار بذلك، والذي حين أصرّ أبو بكر على رأيه، وخالف حتى رأي أهل مشورته لوضوح الصورة عنده أكثر مما هي عندهم، جاءه الفاروق رسولا من بعض الأنصار يطلب أن يؤمِّر غير أسامة، فيرد الصديق بحزم أشد على الفاروق وهو آخذ بلحيته قائلا: "ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، أؤمر غير أمير رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!" هكذا كان فهمه للاتباع حتى في أدق التفاصيل، وهكذا كان منهجه في سيرته.

 

معيار الالتزام والأمانة

مسألة جمع القرآن كانت من أهم ما فعل الصدّيق، وعلى الرغم أنه المتمسك بالاتباع أكثر ممن سواه من الصحابة، إلا أن معيار الأمانة وحفظ الدين هنا جعله يرى أن في هذه المسألة خير

وهذا المعيار لا ينفصل عن معيار الاتباع، بل هو فرع منه، وخير مثال على تحمله الأمانة العظيمة؛ أمانة حماية الدين وبيضة هذه الأمة قوله: "إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقص وأنا حي؟!"، كان هذا قوله حينما امتنع المرتدون عن الزكاة، وفي هذا الموقف يظهر بكل وضوح أن إيمان الصدّيق يرجح بإيمان الأمة كلها بما فيها عمر الذي عاتب الصدّيق على عزمه على قتال مانعي الزكاة، فرد عليه الصدّيق قائلا بقوة "رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك، جبارا في الجاهلية، خوارا في الإسلام؟! ماذا عسيت أن أتألفهم: بشعر مفتعل أم بسحر مفترى؟! هيهات هيهات !!"، "والله لأقاتلنَّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها".

 

هذا عن قضية الزكاة، لكن مسألة جمع القرآن كانت من أهم ما فعل الصدّيق، وعلى الرغم أنه المتمسك بالاتباع أكثر ممن سواه من الصحابة، إلا أن معيار الأمانة وحفظ الدين هنا جعله يرى أن في هذه المسألة خير، وأنها ليست مخالفة للاتباع حتى وإن لم يقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنفسه بجمع القرآن. 

معيار القوة ومعرفة الرجال

تختلف نظرة المؤمن للرجال عن نظر من سواه، والناس في الإيمان درجات، فكيف كانت نظرة الصدّيق وهو على قمة هرم الإيمان في خير أمة أخرجت للناس؟ بعدما أمر الصدّيق خالدا بن الوليد بالتوجه للعراق بعد حروب الردة رجع أكثر جنده ولم يبق معه إلى القليل في الجيش، فطلب خالد المدد من الصدّيق فأمده بالقعقاع بن عمرو، فتعجب الصحابة من ذلك وقالوا للصدّيق أتمد رجلا قد انفض عنه جنوده برجل واحد؟ فقال لهم "لا يهزم جيش فيه مثل هذا". وفي رواية أخرى قال "لصوت القعقاع بن عمرو في الجيش خير من ألف رجل"!.

 

ورغم أن العقل لا يستوعب مثل هذه النظرة الإيمانية التي لا يستطيع تحليلها أكبر المحللين العسكريين والسياسيين، إلا إنه قد تبين صدق الصدّيق، ولم يهزم جيش فيه القعقاع قط، بل وكان عنصرا فاعلا ومؤثرا في أغلب المعارك والفتوحات. كذلك أيضا كانت نظرته لخالد بن الوليد الذي كان يختلف معه فيها عمر، كان الصدّيق يقول عن خالد: أعجزت النساء أن يلدن مثل خالد؟ والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد!.. ولكن عمر بعد وفاة خالد اعترف بنفاذ بصيرة الصدّيق وقال "رحمه الله كان أعلم بالرجال مني".

ما حول هذه الدولة المهدد وجودها إلى قوة عظمى تهدد وجود أي دولة غيرها هو الإيمان الخالص النقي المتغلغلة جذوره في القلب
ما حول هذه الدولة المهدد وجودها إلى قوة عظمى تهدد وجود أي دولة غيرها هو الإيمان الخالص النقي المتغلغلة جذوره في القلب
 

معيار القيادة

أما على صعيد القيادة السياسية والعسكرية، فلم يعرف تاريخ البشر من لدن آدم وحتى يوم الناس هذا قائدا مثل الصدّيق؛ في غضون عامين فقط أرسل الجيوش إلى الجزيرة والعراق والشام، فأخضع الجزيرة ووحدها بكاملها وقضى على كل فتنها وأعدائه فيها، ثم كسر شوكة الفرس وفتح العراق، وانتهت حياته والمسلمون على وشك الخوض في غمار المعركة النهائية الفاصلة بينهم وبين الروم (معركة اليرموك) والتي لم يَقُم للروم بعدها شوكة حتى أتم المسلمون فتح بلاد الشام كلها.

في سنتين فقط، وبعد أن كانت المدينة تحت تهديد وجودي، كان -وهو على فراش الموت- ما يقرب من ١٢٠٠٠ جندي مسلم في العراق و٣٦٠٠٠ جندي في بلاد الشام يزيلون أكبر وأعرق إمبراطوريتين في زمانهما، كانت عروش ملوك الأرض تهتز وكيانها ينتفض كي تحافظ على وجودها بينما المدينة هي أكثر بقاع الأرض أمنا وأمانا، هذا وقد حفظ للأمة قرآنها وأهلك عدوها وثبت أركان دينها وجعلها أكبر قوة عرفها العالم حينها. 

نخلص من هذا التحليل عن معايير الإيمان في سيرة الصديق -والذي أشرنا فيه إلى خمسة معايير فقط على سبيل المثال وليس الحصر- إلى أن ما حول هذه الدولة المهدد وجودها إلى قوة عظمى تهدد وجود أي دولة غيرها هو الإيمان الخالص النقي المتغلغلة جذوره في القلب، وهذا ما أثبته أيضا النص القرآني في عدة آيات مثل: "وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا"، "وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ"، "وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ"، "وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ"، "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ"، فهل من مصدق أو معتبر؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.