شعار قسم مدونات

المعارك المؤجلة

blogs ساعة الزمان

في كل أصباح الشتاء الباردة، تدور آلاف المعارك، يشهدها الملايين من البشر، معارك الاستيقاظ من النوم ومفارقة الفُرُش الدافئة للانطلاق إلى معتركات الحياة، في خلال دقائق قصيرة تدور عشرات الحوارات في المخيلات.

هذا شاب جامعي، على سبيل المثال، يقرر حسم المعركة والبقاء في السرير على أمل الحصول على محاضرات اليوم من أحد الزملاء، تبدو معركة صغيرة وغير هامة ولا تؤثر على مسار التاريخ، لكن التاريخ يخبرنا أن الأحداث الكبرى تبدأ بتفاصيل صغيرة، والأفكار العظمى تبدأ بخواطر وربما خيالات.

 

كل ما فعله ذلك الطالب الجامعي هو تأجيل المعترك مع النفس إلى جولة قادمة، ربما كانت خلال أيام حتى تحين الامتحانات وربما كانت لسنوات حين يبدأ موسم الحصاد؛ الذي تتجمع فيه كل التفاصيل وتُختزَل فيه الأيام والساعات كأرقام ومشاعر وسلوكيات. وبسبب تلك الحقيقة؛ فتكلفة تلك المعركة المؤجلة قد لا تكون مجرد معركة استيقاظ تستغرق دقائق، بل تغيرات عظمى في التفكير والسلوك والمهارات والقدرة على مواجهة المعارك القادمة.

تأجيل قول الحق، بداعي الخوف أو الطمع أو ترجيح درء المفاسد الآنية، هو أحد أهم المعارك المؤجلة التي تسببت في تغوّل السلطات ونمو الدكتاتوريات

يبدو أن تأجيل المعارك يتسبب في مضاعفة الجهد والكلفة لاحقا، عند محاولة التصحيح، بالرغم من المبدأ القائل: أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي. في حياتنا تدور معارك صغيرة في كل جوانب الحياة، تبدأ صغيرة، تُؤجل، تتراكم، تتحول إلى طوفان من المشاكل لا طاقة لنا بمواجهته، لكننا مع ذلك نتساءل "أنّى هذا؟" فيُجيبنا الزمان والمكان، الحاضر والماضي: "هو من عند أنفسكم".

تبدأ المفاسد صغيرة، بحاجة إلى شجاعة لحظية؛ صراحة، نزاهة، لكنْ تخطر الخواطر وتنثال المبررات بداعي عدم أهمية المفاسد أو ضآلتها أو عدم تأثيرها على المصالح الشخصية، تنتشر، تصنع شبكة مصالح، تتوسع لتصل إلى دوائر أكبر تصعب السيطرة عليها، يستغل الفاسدون تلك الثغرة وربما غريزة حب الذات ليصلوا إلى مستويات أعلى بربط مصالح الناس ببؤرة الفساد تلك، يستغلون اهتمام العامة بالمصالح الآنية ليكبلوا مستقبلهم بديون وعواقب وخيمة لا قبل لهم بها لاحقا.

تأجيل قول الحق، بداعي الخوف أو الطمع أو ترجيح درء المفاسد الآنية، هو إحدى أهم المعارك المؤجلة التي تسببت في تغوّل السلطات ونمو الدكتاتوريات، ولا يعدم أصحابها الحجج المبررات، وقد يكون لبعضها اعتبار، لكن الاستبداد لا يرتضي لنفسه الوقوف عند هذا الحد من السكوت عن قول الحق، حتى يتحول الصامتون إلى مبررين للباطل ومن ثم إلى مروجين له وجوقة في بلاطه.

السياسة في عالمنا العربي، هي أوسع أبواب الفساد، إن لم تكن هي التعريف الاصطلاحي العربي للفساد، ويكفي أن تلقي نظرة خاطفة على الخريطة لتدرك ذلك، لكنها دوما ما تعتمد على تأجيل معارك الضمير والشفافية والنزاهة إلى حين استتباب الأمر، ويدرك كل من يشتغلون بها -أي السياسة- أنها تحتاج إلى مهارات ليس منها الكفاءة والنزاهة، بل القدرة على الوصول إلى مراكز صناعة القرار بأي طريقة، واستغلال البسطاء وحاجة المحتاجين وأصحاب المصالح.

لم يكن يدرك المواطن البسيط أن تفريطه في حق التفكير المكفول له دوما، حتى لو حرم من حق التعبير، وتأجيله معركة اتخاذ قرار بحسب المبدأ لا بحسب المتغيرات أو المصالح، سيورده هذه المهالك التي يعيشها عالمنا العربي المثخن بالجراح، لم يكن يعلم أن التغاضي عن فساد صغير سيتحول إلى حبل مشنقة غليظ يلتف حول رقبته جوعا أو فقرا أو خوفا، أو هجرة وتيها في الأرض، لم يكن يعلم أن تأجيل معارك الحصول على الحقوق سيتحول إلى استجدائها ثم الموت من أجلها بتكلفة مضاعفة عشرات المرات عن وقتها الأصلي.

معركة مواجهة المخاوف بشجاعة، ومقاومة الرغبات الآنية والمصالح الضيقة هي أعظم معارك النفس التي هي أعظم معارك الحياة
معركة مواجهة المخاوف بشجاعة، ومقاومة الرغبات الآنية والمصالح الضيقة هي أعظم معارك النفس التي هي أعظم معارك الحياة
 

إن معارك السياسة الطاحنة التي نراها اليوم في بلداننا ما هي إلا انعكاس لتأجيل معركة الضمير في نفوس الأفراد والتي هي معركة التربية والتعليم والدين، باختصار هي معركة النفس، تماما كمعركة الاستيقاظ من النوم. لم نكن ندرك أن تلك التفاصيل ستؤثر على مستقبلنا بهذا الشكل، إلا حينما بحثنا في أوطاننا عمّن يقدم مصالح الوطن على مصالح ذاته أو حزبه أو فصيله ولم نجد إلا القليل إن لم نجد أحدا، وبحثنا عمّن يفتدي وطنه بماله ونفسه فلم نجد إلا بيعا للوطن في مزاد المناصب والأموال.

 

لم نكن نتوقع أن يتغوّل مسؤولو الدولة إلى حد نصف الآلهة غير القابلة للنقاش والحوار فضلا عن المحاكمة أو التغيير، إلا بعد أن ذهبت بنا السياسة إلى طريق بلا رجعة وليت الأمر اقتصر على ذلك، بل تمّ توريط الأجيال القادمة -أبناءنا- في دفع فاتورة الصمت والخذلان فضلا عن التآمر والخيانة.

إن معركة الشفافية هي أكبر معارك الدول، ومعركة النزاهة هي أكبر معارك المسؤولين، ومعركة مواجهة المخاوف بشجاعة ومقاومة الرغبات الآنية والمصالح الضيقة هي أعظم معارك النفس التي هي أعظم معارك الحياة. إن وضوح الفكرة هو حجر الزاوية في بناء الشخصية وبالتالي بناء المجتمعات والدول. هو إذاً عبادة التفكير التي سيبنى عليها الحساب والعقاب في العاجل والآجل حسب السنن الكونية التي لا تظلم أحدا، وتأجيل المعارك لن يجدي في تقليل كلفتها في ظل وجود عوامل الوقت والقدرات وتسارع الأحداث التي لا تمهل طويلا.

أدركنا مؤخرا، ونحن ننتقل من معركة إلى أخرى بأيدينا أو بالنيابة، أن مواجهة المخاوف والمشاكل بجدية وشجاعة في وقتها كان أقل تكلفة مهما كانت ضريبة الشجاعة، فهي أقل بكثير مما هو حاصل حاليا، وأن ما يحدث حاليا يبدو منطقيا جدا بالنظر إلى كل تلك التراكمات، وليتنا ننجح في بناء مستقبل لأبنائنا خال من المعارك المؤجلة، بل وخال من حاضرنا بكل تفاصيله، ليتنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.