شعار قسم مدونات

جناية المثقفين الشعبويين من الإسلاميين والغربيين على حضارة بعضهما

blogs - trump
الشعبويةُ حالةٌ يُهيمنُ فيها جزءٌ أدنى من ثقافةِ الأمة على أجزء متعلمةٍ وحاذقة، مُحاوِلَةً تشويهَ التراكم المعرفي في حضارة الذات، مع العزوف عن التلاقح مع حضارات الآخرين، فتتعسف الشعبويةُ بذلك مواجهةَ التحديات الفكرية بأفسد الوسائل. هذه الآفة تصيبُ أي ثقافة شرقاً وغرباً، وهو ما شرحتُ أسبابه في العجز التكيفي في مقالتي الموسومة "بين ترمب ومرسي: هل حركاتُ الصحوة الإسلامية يمينيةٌ شعبويةٌ؟". وسأشرح هاهنا بعضاً من العقبات المعرفية التي تمنع المثقف الشعبوي من إدراك ثقافات الآخرين، وهو ما يعزز الصراعات الدولية. إن أَيَّ حكمٍ سطحي ومستعجَلٍ على حضارة ما، بأقلَّ مِن أجودِ ما توصَّلَ لهُ أصحابُ تلك الحضارة، هو هدرٌ عظيم للنضج المعرفي الذي أحرزتهُ تلك الحضارة وعلماؤُها. ولا خلاف أبدا في أن الصراعات الدولية مُتفرِّعة في جُلِّها عن عدوان عسكري، ومظالم اقتصادية، وقهر خارجي، واستبداد محلي، لكنَّ هذه المقالة ستركز على الجانب المعرفي من تعسف الشعبويين نظرا لِقِلَّةِ تناوُله في المحافل الإعلامية.
  
من المتداول أن يطرح أجنبيٌ جهولٌ تعميماً يرى فيه أن حضارة المسلمين عبر تاريخها الطويل:
1- سطحيةٌ تخلو من القدرة على التعامل مع اللغة وتأويلها.
2- وتسليميةٌ تتعامى عن نقد مروياتها.
3- وواحديةٌ تفتقر للتنوع الفكري.
4- ومُتشنِّجةٌ تعجز عن النقاش الهادئ!

تخيل أن يأتي شعبوي غربي بمثل هذا الحُكم التحقيريِّ والذي ينطبق على الأميين أو الشذاذ المغالين في الحضارة الإسلامية. لكنه هيهاتَ أن يصحَّ على الطبقة العالمة منها، فهو لا يدري:

1- أن البلاغيين والمفسرين المسملين أسالوا أنهاراً من الحبر تقليبا لاحتمالات المعاني.
2- وأن علم الحديث هو علم النقد أساسا، أي نقد علل المتون والأسانيد، إذ كلُّ رواية معلولةٌ حتى يثبُت العكس.
3- وأن علم الفقه هو علم الخلاف، ودراستُه هي مقارنةٌ بين الخلافيات، وأن الوقوع على الإجماع نادر، لا بل يوجد مَن ينكره إصلا.
4- وأن علم العقيدة، والذي يُرامُ منه معرفة اليقينات، قد تطور تحت اسم علم الجدل، وأنك لا تجد مُتكلِّما يدَّعي دعواهُ حتى ينطلق نظيره بالمعارضة. وهكذا فالحضارةُ الإسلامية أُشبِعَت بطبقةٍ عالمة من أهل التأويل والنقد والخلاف والجدل، ثم يأتي غربي شعبوي ليطمس كل هذه التعددية، وهو ما تجده مُنتشِرا اليومَ في الإعلام!
   
وفي المقابل فليس المثقف الإسلاميُّ الشعبوي عن ذلك التشويه العظيم للتراكم المعرفي الذي اقترفه الغربي ببعيد. فمن الحاصل أن يطرح عربيٌّ شعبوي على الغرب توصيفاً يرى فيه أن فلسفة الحداثة عبر تراكمها الطويل:
1- معارِضةٌ للعقلانية بدليل هجوم الفلاسفة الوجوديين على العقل، وأن فلاسفة ما بعد الحداثة قد أعلنوا نهاية العقلانية.
2- وأن الفكر الفلسفي ليس فكرا علميا أساسا، إذ لا يلزم بعضُهما للآخر، بل ويجوزُ أن يحيط المرءُ بالعلم دون قطرة من الفلسفة.
3- وأن الحداثةَ، ولو جوَّزنا اقترانها بالعلم، فلا شأن لها بالقيم والأخلاق.
4- وأن الفلسفات الحداثية ذات تمركز غربي لا تعرف عن لغات شعوب القارات الأخرى وأديانهم وثقافاتهم ما يُثري ذاتها!

تخيَّلْ أن يأتي إسلاميٌ شعبوي بمثل هذه الأحكام التبخيسية التي تنطبق على التيارات الشاذة أو الخارجة على الحداثة! لكن هيهاتَ أن يصدر مثل هذا من الراسخين في علوم الحداثة كما سأُفصِّل. فإذا كان تشويه الشعبوي الغربي كتشويه الشعبوي الإسلامي، فكيف تُثقَّفُ تلكما الفئتان؟ وهنا ننتقلُ لمناقشة أساليب رفع الشعبوي لمستوى الاختصاصي، وسأقترح منهاجا دراسيَّا يرتقي بالطرفين.

  
إن ما بين فيلسوف التاريخ ابن خلدون والمُغنِّي شعبان عبد الرحيم على الصعيد الإسلامي هو كما بين فيلسوف التاريخ توينبي ومايكل جاكسون على الصعيد الحداثي
إن ما بين فيلسوف التاريخ ابن خلدون والمُغنِّي شعبان عبد الرحيم على الصعيد الإسلامي هو كما بين فيلسوف التاريخ توينبي ومايكل جاكسون على الصعيد الحداثي
 
ولإنضاج المُقارنة أقول: عندما يأتي مثقفٌ غربيٌ يرغب في دراسة الإسلام أو اعتناقه، قد يقال له إن أصول الفقه هي الجهازُ العصبي للتراث الإسلامي والذي يُفضي للتأليف بين مباحثه وجزئياته وأولوياته. وهذه توصية مُعتبَرةٌ، لكن هذا الأجنبي المسكين [على أيِّ قدر من الذكاء كان] سيُصدَمُ صدمةً كبرى عندما يجدُ أنَّ أيَّ كتابٍ محترمٍ في أصول الفقه مُقتَضِيٌ لمعرفة مسبقة بجملة من العلوم، أخصُّ منها الحقولَ التالية مع انتخاب بعض المؤلفين [دون ذكر العناوين لضيق المساحة]:
1- علوم القرآن للزركشي.
2- علوم البلاغة للجرجاني.
3- السيرة النبوية لابن هشام.
4- علوم الحديث لابن الصلاح.
5- الفقه المقارن لابن رشد.
6- شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار.
7- عِبَرُ تاريخ الإسلام لابن خلدون.
8- تجربة الحركات الإسلامية من خلال كتاب مشاريع الإشهاد الحضاري لعبد المجيد النجار.
 
وجليٌ أنَّ كلَّ حقل من هذه الحقول هو مبحثٌ واسع بحد ذاته، ما يحتاج لأكثر من كتاب لاستجلاء خلافياته، ليُصار من بعده لهضم علم أصول الفقه. والحِكمة من ذلك أن أصول الفقه مبحثٌ يرادُ منه أن يكون نظريةً فوقيَّةً كبرى للتنسيق بين فروع العلوم التراثية. وغاية ذلك هو كون أصول الفقه علمٌ يروم تحديد وترتيب مصادر الأحكام الشرعية التفصيلية، وفهم معانيها اللغوية، وتعليلاتها العقلية، وغاياتها العقدية، وتطبيقاتها التاريخية في النوازل العامة، ما يستدعي تضافر تلك العلوم الفرعية. ولا غرابة أن أكثر علماء الإسلام معرفةً بتفاصيل التراث هم أيضا علماء في أصول الفقه من قامة الغزالي والشاطبي وابن رشد والعز بن عبد السلام. ولا مجال للغفلة عن المبحث العظيم للتصوف، لكنَّه يقع نسبيا خارج أصول الفقه لمحاولة التصوف تجاوز فقه الظاهر بالكلية، بتأسيس فقه للباطن وترويض للنفس [وليس هذا مجال تفسير هذا التجاوز الصوفي].
   
ومثلُ ذلك المثقف الأجنبي المُقْبِل على الإسلام، فالعربيٌّ المثقف المُقْبِل على الحداثة يصاب بصدمة كبيرة مشابهة، لما يقال له أن تطور اجتهادات الحداثة آلَ اليوم ليكون بيد الفلسفة التكاملية أو المنظوماتية [Systematic Philosophy]، حتى إذا أخذَ منها كتابا [كالفلسفة في الجسد] للاكوف أو [صراع المنظومات] لرشر أو [البزوغ والتكامل] لماريو بُنغيه أُسْقِطَ في يديه، ووجد أنه لا يستوعبُ الاصطلاحات ولا الاستدلالات ولا الحكمة من هذه ولا تلك. وسرُّ هذا العجز لا غباوة من المثقف العربي الإسلامي، بل في كونِ حال الفلسفة المنظوماتية كحال أصول الفقه للتراث الإسلامي، أي أنها نسيجٌ فوقيٌ يقتضي التمكن المسبق من جملة من العلوم ألا وهي:
1- المنطق وفلسفته.
2- فلسفة اللغة واللسانيات.
3- فلسفة العلوم الطبيعية والمنهجية العلمية.
4- فلسفة التطور الأحيائي.
5- فلسفة النفس والدماغ.
6- فلسفة العلوم الاجتماعية.
7- فلسفة التاريخ الكوكبي للمجتمعات البشرية.
8- التفسيرات العلمية المقارنة للثقافات الإنسانية من أديان وآداب وفنون.
لا عجب أن كثيرا من الصراعات الدولية إنما تترعرع في أدمغة الشعبويين أولا، وفي سوء إدراكهم لثقافاتهم وثقافات الآخرين
لا عجب أن كثيرا من الصراعات الدولية إنما تترعرع في أدمغة الشعبويين أولا، وفي سوء إدراكهم لثقافاتهم وثقافات الآخرين
  

وعلَّة تكاثر هذه العلوم كونُ الفلسفة المنظوماتية للحداثة نظريةٌ تروم إيضاحاً لعبارات مُحكَمَة، واتساقاً للأفكار ، وإحالةً للخطاب على الواقع (مادةً وكائناتٍ حيةً ومفكِّرةً)، وهِدَايةً قيميَّةً للتعامل معها، وهو ما يستدعي تضافر تلك العلوم. ولا مبالغةَ في هذا الكلام لمن يفتح الكتب المذكورة أعلاه ويروم مطالعتها [لسوء الحظ لم يترجم إلا للاكوف]. لكن لحسنِ الحظ ففي العربية مقدماتٌ طيِّبَةٌ تُمكِّنُ المثقَّف العربي من مُدارَسَة الجهاز العصبي للحداثة والخروج من الشعبوية، وأخص هذه العناوين الموافقة لترتيب العلوم أعلاه:
1- تاريخ المنطق لبلانشي بترجمة يعقوبي ويضاف له المنطق متعدد القيم لصلاح عثمان.
2- أعلام الفكر اللغوي لهاريس.
3- نشأة الفلسفة العلمية لرايشنباخ، وتاريخ العلم لغربين.
4- أعظم استعراض فوق الأرض لدوكنز.
5- علم النفس التطوري لباس والبحث عن الوعي لكوتش.
6- علم الاجتماع لجيدنز. مع التنبيه أني لا أعلمُ كتاباً في فلسفة العلوم الاجتماعية في العربية على شرط المنظوماتية، لكن مزيجا من الأمهات التي تُرجِمَت لـكينز وشومبيتر وبارينجتون تعطي حدوسا جيدة.
7- التاريخ الكبير ومستقبل البشرية لسباير، وتاريخ البشرية لتوينبي، والتحول الكبير لبولانيي.
8- تكوين العقل الحديث لراندال مع تاريخ الأفكار والمعتقدات لإلياد وآفاق القيمة لبيري.
 
وهذه المؤلفاتُ مداخل قيِّمَةٌ تُمكِّنُ من الاقتدار على مطالعة الفلسفة المنظوماتية للحداثة، لكنها علوم شاسعةٌ قائمة بحد ذاتها، ما يستلزمُ قراءةَ أكثر من كتاب في الحقل الواحد. ولا عجب أن يكون الفيلسوف المنظوماتي هو أقدر مَن يمثل الجهاز العصبي لفكر الحداثة، وهو ما يجده المرءُ في مؤلفات جهابذة مثل رسل وبلانشارد وبنغيه ورشر وغيرهم.

  
الفلسفة المنظوماتية تدلُّ على أن الحداثة حضارةٌ أُشبِعَت بمقاصد العقلانية والتفلسف والأخلاق والاعتراف العولمي، فلا يفلحُ الشعبوي طمسا لكل هذا
الحاصل أن الإسلاميَّ الشعبوي في نفيه للعقلانية والعلمية والأخلاقية والعولمية عن الحداثة فهو كالغربي الشعبوي عندما اتهم الحضارة الإسلامية بالسطحيةٌ والتسليمية والواحدية، والتشنج. كلاهما متورطٌ في تشويه ثقافة الآخر كما تعرِضُها فلسفة المنظومات، ذلك أن الإسلامي الشعبوي لا يدري:
 
1- أن العقلانية شرطٌ من شروط الفلسفة الحديثة وأن المنطق أحد أهم أبوابها، والذي لا يني يتوسع ويتكاثر، فصار عندنا منطق للقرار الإداري، ومنطق تقاني تشتغل به آلات الذكاء الصناعي، ومنطق متعدد القيم يتعامل مع الظواهر الطيفيَّة التي لا تقع بين ثنائيات حدية. الفلسفة مُترَعَة بالمنطق، فهل يصح أن الحداثة نبذت العقلانية؟ أم أن ثُلَّةً منها لا تني ترعى شجرة العقلانية رغما عن الفلاسفة الوجوديين الذين رسبوا في هذه الاختصاصات.
 
2- والقائل بانفصال العلم عن الفلسفة يتجاهل أن العقول التي اخترعت مباحث الرياضيات التحليلية، والتفاضل والتكامل، ومنطق الاستقراء، وأسس علم المنطق الرياضي [أي الخطوة التمهيدية للحوسبة]، هي عقولٌ فلسفيةٌ صريحة وهي على التوالي عقول ديكارت، ولايبنتز، وجون ستيوارت مِل، وبرتراند رسل، وهم جميعًا فلاسفة تأسيسيون في نظرية المعرفة. ولا يمكنُ للعلم الطبيعي أن ينموَ دون مهارات الشك، والتخيُّل، والفَرَضِ، والتفنيد، والتوليف بين النظريات، وبناء النماذج، وكلُّها أساليبُ فلسفية صريحة يتمكن العالم من خلال مُدارَستها أن يتعمق في إبداع النظريات وبنائها.
 
3- والقائل بفصلِ الفلسفات العلمية عن الأخلاق كأنَّه ينكر وجود كلياتٍ جامعية للفلسفة في الغرب يُطرَحُ فيها أكثر من مساق في الأخلاق! وكأنه لا يدري أن مباحث الأخلاق صارت اليوم تدخلُ كليات التجارة في أخلاقيات الأعمال التجارية، وكليات الطب والأبحاث الحيوية، فضلا عن كليات العلوم السياسية. إن مبحث الأخلاق اليوم صار جزءً لا يتجزأ من فلسفة الحداثة لأنه صارَ مشتقا من العلوم الطبيعية في علاقة الإنسان بالبيئة استهلاكاً للماء والمعادن، واستدامةً للإنتاج الزراعي والحيواني، وتعاوناً مجتمعيا على العمالة والتثقيف والترفيه. ولا عجب أن الأخلاق اليوم صارت تَستَنبِطُ قِيَمَاً من سلوك الحيوان ومن تاريخ الإنسان في بيئاته، كما يشرح ديفيد باس أعلاه، ومن الشروط الطبيعية للعيش بحسب مؤشرات الأمم المتحدة للتنمية المستَدَامة.
  
4- أما دعاوى المركزية الغربية فلها اعتبارها ولا شك، لا في المحافل السياسية وحسب بل وفي المقررات الأكاديمية. لكن لا ينبغي لأحدٍ أن يتناسى أن خريطة اللغات العالمية وسلالة نسب بعضها لبعض، وكذا مجمل تاريخ الأديان وتوالد بعضها عن بعض، مع ترجمة أمهات الآداب والأشعار العالمية، وتوليف كل هذا في تاريخ عام للبشرية لم يحدث من قبل إلا في الأكاديمية الحداثية. وهكذا صار الأكاديميُّ الإنجليزي يعرف أن ديانته المسيحية مولودةٌ في الهلال الخصيب، وأن فلسفته اليونانية ذات جذور مصرية وبابلية، وأن لغته من أصول هندو-أوروبية، وأن جنسه البشري متأصل في إفريقيا، وأن أصول الحضارة بعيدةٌ تاريخيَّاً عن شمال أوروبا، ومزروعةٌ في جنوب المتوسط والهند والصين.
 
لا حل لآفة انزلاق المرء للشعبوية إلا أن يوسِّعَ المرءُ من ثقافته لتغطي أبعاد المعرفة البشرية مهما كان عمق تخصصه 
لا حل لآفة انزلاق المرء للشعبوية إلا أن يوسِّعَ المرءُ من ثقافته لتغطي أبعاد المعرفة البشرية مهما كان عمق تخصصه 
    

وكل هذا اعترافٌ بالآخرين وتقديرٌ لإسهاماتهم المؤسِّسة للحاضر. الحاصل من أن الفلسفة المنظوماتية تدلُّ على أن الحداثة حضارةٌ أُشبِعَت بمقاصد العقلانية والتفلسف والأخلاق والاعتراف العولمي، فلا يفلحُ الشعبوي طمسا لكل هذا.

   
لا عجب أن كثيرا من الصراعات الدولية إنما تترعرع في أدمغة الشعبويين أولا، وفي سوء إدراكهم لثقافاتهم وثقافات الآخرين. والخطورة هنا أن المثقَّف، ولو كان جامعيَّا بل ومُتخصِّصا في حقل جزئي معين [دون تصوُّرٍ فلسفي شمولي لحضارته وحضارة غيره] فلا يُؤْمَنُ عليه السقوط في الشعبوية. هذا يعني أن ميزة حمل المرء لشهادة الدكتوراه في العلوم الطبية أو الهندسية أو اللغوية مثلا لا يعصمه من أن يكون شعبويا في كل المباحث الخارجة عن حقله الذي تخصص فيه! ولا حل لآفة انزلاق المرء للشعبوية إلا أن يوسِّعَ المرءُ من ثقافته لتغطي أبعاد المعرفة البشرية مهما كان عمق تخصصه.
 
إن الغربي الشعبوي الذي قرر أن يفهم الإسلام كله [من دون أصول الفقه] ما يفهمه صحفيٌّ مُستَعجِلٌ يطالع طقوس الوضوء والصلاة، فمثله الإسلامي الشعبوي الذي يفهم الفكر الحداثي كله [دون الفلسفة المنظوماتية] ما يطالعه في رقصات مايكل جاكسون. إن ما بين فيلسوف التاريخ ابن خلدون والمُغنِّي شعبان عبد الرحيم على الصعيد الإسلامي هو كما بين فيلسوف التاريخ توينبي ومايكل جاكسون على الصعيد الحداثي، لأن ثمن الوصول للجهاز العصبي لثقافة شاسعة ومتشابكة وذات تاريخ طويل ليس هو ثمن الخروج من العامة إلى الدخول في الخاصة فحسب، بل هو الدخول في خاصة الخاصىة. وفي هذا الخروج أحد الحلول الثقافية لتجاوز سوء الفهم بين الحضارات. إن الاختلاف بين ابن خلدون وتوينبي هو اختلاف على التفاصيل لا الروح العلمية والمقاصد الأخلاقية. كيف لا والإنجليزي توينبي يرى المقدمة الخلدونية أعظم سِفرٍ كُتِبَ في تاريخ البشرية! إن خروج المثقفين من الحالة الشعبوية لن يفضي للسلام العالمي مباشرة ، لكن التعلُّم الشمولي سيعين على إدراك تفاصيل الصراع البشري وردِّ أبعاضه لعلل مخصوصة من عدوان عسكري، أو مظالم اقتصادية، أو قهر خارجي، أو استكبار ثقافي أو استبداد محلي.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان