شعار قسم مدونات

الفكر أم الخبز؟

blogs - Tunisia
ذات صيف من عام 2013 كان عزمي بشارة في ضيافة الرئيس التونسي الدكتور المنصف المرزوقي بقصر قرطاج يلقي محاضرة عن السياقات التاريخية لنشوء العلمانية وتباين حدتها من بلد لآخر، وكان بالقاعة خيرة العقول التونسية من مفكرين وأدباء وأكاديميين، وأنت تشاهد المحاضرة تمر من الشارع الذي خلف ظهر الضيف حافلة فيها في الغالب أشخاص بسطاء، لكن ذلك البسيط الذي ربما لا يفرق بين العلمانية الفرنسية والعلمانية البريطانية، أو بالأحرى لا يعنيه الموضوع أصلا، ويعتبر أكبر هم عنده الحفاظ على عمله ودفع إيجار المنزل شهريا، ثبت أنه يحدد مسارات السياسة التونسية أكثر من كل المفكرين الأكاديميين والأدباء المبدعين.

  
فالمنصف نفسه ناضل زمنا طويلا ضد زين العابدين بن علي، فقد نصح ونقد وعانى التضييق والمنفى،  ودفع أثمانا باهظة مثله مثل الإسلاميين واليساريين وغيرهم، ولكن دون جدوى، وظل الوضع على حاله حتى جاع ذلك البسيط وخاف فحركته غريزة البقاء، ليعود المثقفون من المنفى وبعد ثلاث سنوات تنتخب حكومة حمادي لجبالي، والتي لم ينتخبها التونسيون لسواد عيونها ولا لبلاغة قادتها وفصاحتهم، وإنما لأنهم مازالوا يتوقون لوعد التنمية وليس الحرية فقط، فهم يريدون زيادة دخل الفرد وتخفيض الأسعار و القضاء على البطالة، أكثر مما يريدون حكومة منتخبة، فشعائر الديموقراطية لا تهمهم كثيرا لا في رمزيتها ولا في دلالاتها بقدر ما يهمهم انعكاس ذلك على حياتهم اليومية، ولأن حكومة النهضة لم تقطع أشواطا بعيدة في الإصلاح فقد حلت ثانية في الإنتخابات الموالية، وهكذا ستبقى العجلة تدور بين الطرفين، لأن الناخب البسيط لا يفهم صعوبة التغيير، صعوبة الإصلاح الإداري وصعوبة النهوض بالاقتصاد المتهالك.
  
ولا يهم ذلك الفقير في "باب السويقة" والفلاح في أعماق الصعيد المصري والقروي على جبال الأطلس ولا حتى المكافح وسط دخان المصانع في المدن المزدحمة، لا يهمه كثيرا من أين تستقي بنات أفكارك، هل من بطون كتب التراث أم من أعلام حركة الإصلاح أو حتى من رواد عصر التنوير الأوربيين، و هذه المسألة بالتحديد ثانوية بالنسبة له أكثر من غيرها، فأي فكر لا يغير الواقع نحو الأفضل هو فكر عقيم بالنسبة له.

   

الإخوان في مصر في 2010 لم يكونوا يحلمون بأكثر من رؤية ضوء الشمس وبعد عامين كانوا في القصر الرئاسي مثلهم مثل النهضة
الإخوان في مصر في 2010 لم يكونوا يحلمون بأكثر من رؤية ضوء الشمس وبعد عامين كانوا في القصر الرئاسي مثلهم مثل النهضة
 

وأتذكر هنا نقاشا بيزنطيا لأحد الإخوة حول ضرورة استخدام مصطلح "الشورى" بدل "الديموقراطية"، وهنا أردد فقط القاعدة الفقهية المعروفة (لا مشاحة في الاصطلاح). ومع الوقت ستصبح البرامج الانتخابية في تونس -و أي بلد تتاح له فرص انتخابات ديموقراطية- ستصبح اقتصادية بحتة، لأنهم سيعرفون أن حروب الكلام هي حقا "لا تسمن ولا تغني من جوع".
  
في مصر هي الأخرى كان الكتاب يركضون منهكين خلف تغيرات الواقع الكثيرة، فكان الواقع هو ما ينتج الأدب لا العكس، فلم يحرك الشعرُ الناسَ نحو الثورة وإنما عبروا به عن وجدانهم في تلك اللحظات الشاعرية وسط الميادين، و لم يخرجوا لأن مفكرا كبيرا قرر بجرة قلم الإطاحة بالاستبداد، بل لأن ضنك الحياة وكدر العيش دفع الناس دفعا نحو الشوارع والميادين. فهذه الثورات لم تطبخ على نار هادئة في أذهان الأكاديميين، وإنما تشكلت في تلك الصحون الفارغة التي لا تطبخ أصلا.
وأصوات عصافير بطن الفقير أقوى من أي خطاب لشيخ أو محاضرة لمفكر.
 
وقد تقول لي إن فرص الوصول للحكم معدومة في أغلب البلدان العربية بسبب المؤسسة العسكرية أو الأنظمة الملكية، أقول إن الإخوان في مصر في 2010 لم يكونوا يحلمون بأكثر من رؤية ضوء الشمس و بعد عامين كانوا في القصر الرئاسي مثلهم مثل النهضة، والحزب الذي ينتظر أن يصل للحكم حتى يعد مشروعا إصلاحا اقتصاديا أو اجتماعيا حقيقيا لا يستحق أن يسمى حزبا. فكلمات الحرية والديموقراطية و الوطنية إذا لم تتم ترجمتها إلى مادة ملموسة يفهمها البسطاء تصبح أقرب إلى الاستفزاز منها للإغراء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.