بخمس ثوان، خمس ثوان فقط! تَتَحرّكُ الكاميرا من اليمين إلى اليسار، مظهرة الرّتلَ العسكريَّ كلَّه، وتتجه مباشرة إلى الرَّجلِ الذي يُمسكُ الهراوةَ بيدِه، ويلوِّحُ بها عاليا، ليضربَ ذاك المكانَ المُتَوَضِّعَ بينَ أسفلِ الجُمجمةِ وأعلى الرّقبة، فنسمعُ صوتَ شيء يُكسرُ، وباللحظة نفسها -دون مبالغة- ينتفضُ الرّتلُ العسكريّ انتفاضا من قساوةِ المَظهرِ، وكأنّهم يُؤَدّونَ حركةً مقصودة جميعا بالوقت نفسه، فتنثني ركابُهم، وتنحني ظهورهم كالورد الذَّبِل، وتُكَشِّرُ وجوهم وتُغْمَضُ عيونُهم، وعلى الرّغم من سوءِ نوعيِّة التّصويرِ، إلا أنّكَ تستطيعُ اشتمامَ رائحةِ عَرَقِهِم البارد ويخيَّلُ إليكَ للحظة أنَّهم سيسقطون جميعا من قساوةِ المنظر وبشاعته، ولكن، فجأة، تنتصبُ قاماتُ الرّتلِ العسكريّ مجددا خوفا من إظهارِ اشمئزاز أو غضبٍ مما هم مجبرون على رؤيته، ويسقط معصوبُ العينين وما زالَ مُكَبَّلَ اليدين ومازالَ عالقا على العمودِ، ولم يتفوَّه بكلمة واحدةٍ، وبعد مرورِ أقلِّ من ثانيةٍ على موتِ المَعدومِ، يُصفِقُ العَسكرُ خوفا أو رهابا! لا يُهمّ، وينادون زعيمهم "بالروح بالدم نفديك يا صدام" لتفهمَ عندها أنّ هذه المسرحيَّةَ المُبْتذلةَ ما كانتْ إلا درسا لكلِّ من يجولُ في ذهنِه من هؤلاءِ العسكرِ ألّا يُصادِقَ ويوافقَ على ما قاله الزعيمُ المُجرِم.
هناكَ من يُؤَيِّد مجرمَ حربٍ في عصرِنا هذا لأنه "حارب" أميركا في آخرِ أيَّامه، ورمى صاروخين أو أكثرَ على إسرائيل ليستميلَ عاطفتكم. هذا الرَّجلُ أساءَ للعراقِ أكثر ممّا أساءتْ كل دول العالم للعراقِ قاطبة |
ماتَ صدّامُ، أو قتلَ، أو استشهدَ… لا يهمّ… المهمّ أنّه كانَ كغيرِه من الحُكّام العربِ… سليطاً عليهم، يقتلُ ويجرمُ ويعبثُ بأرواحِ النّاسِ… لحمايةِ العراقِ من " الفوضى" وليحارب "العدوّ" الصّهيونيّ المُجرِم، وليحافظَ على "التّلاحمَ" و"التعاضض" بينَ سُنّة وشيعة وأكراد في العراق.
ماتَ صدّامُ، أو قُتلَ أو استشهدَ… لا يهمّ… المهمّ أنّه لم يكنْ مدعوماً من الأميركيين أبداً… فكلنا نعلمُ تلك المصانعَ العسكريَّة العظيمةَ التي كان يَمتلكها العراقُ، وكيف كانَ العراقُ يُصدرُ أسلحتَه إلى كل من أمريكا واليابان وألمانيا وبلاد الواق الواق، ولم يموِّله لا الرّوسُ ولا الأوروبيون ولا السعوديون ولا حتّى ابن جارتي ذو الخمسِ سنين، طبعاً يا جهابذة… لم يحاربْ إيران إلا بما كان يمتلكه شعبُه…
ماتَ صدّامُ، أو قُتلَ أو استشهدَ… لا يهمّ… المهمّ أنه كان سياسيّا محنكا… فنجحتْ خطته اللئيمة، والتي حالتْ دون تنفيذِ المؤامرةِ العَلْوَجِيّةِ على العراق، ولم يستطعْ أحد أن يحتلَّ العراقَ من بعده، وانظروا إلى الرخاء والعمار والتطور الذي يعيشُه العراقيون اليوم، لقد احتفلوا منذُ يومين فقط بِعيدِ انقطاعِ الكهرباء السنويّ الخامسِ عشر…ولا تزالُ محطَّاتُ الكهرباءِ لا تعمل جيّدا بالرّغم من أن العراقَ هو ثاني أكبر خزان بترولٍ في العالم، واحتفلوا أيضا بالمواطنِ رقم 10 مليون الذي كفرَ وتجبَّرَ بسببِ ضيقِ العيشِ وانحطاط مستوى الحُريَّاتِ هناك.
ماتَ صدّامُ، أو قُتلَ أو استشهدَ… لا يهمّ… لكنّه مازالَ لدى الكثيرين للأسف هو الثالثَ مكانة بعدَ الله ورسولِه محمد(ص)؛ الغريبُ أنّك تعتقدُ أنّ هذا التأليه لشخصِ صدَّام قد يكون نتيجة لجهل وعدمِ ثقافة، ولكنْ، هدِّئ من روعِك، فعدد المثقفين ممن يدعمونَ ويتباهونَ بذكرى صدَّام أكثر من عددِ مؤيدي نظرية (1+1=2).
نعم يا سادة، هناكَ من يُؤَيِّد مجرمَ حرب في عصرِنا هذا، لماذا؟ لأنه "حارب" أميركا في آخرِ أيَّامه، ورمى صاروخين أو أكثرَ على إسرائيل ليستميلَ عاطفتكم. هذا الرَّجلُ أساءَ للعراقِ أكثر ممّا أساءتْ كل دول العالم للعراقِ قاطبة. لنكنْ صريحين، فمعظمُ من يؤيّدُ صدّام هم أشخاص تحرّكوا بهذا الصّددِ لأسبابٍ في معظمِها دينيّة، لنتكلم هنا بلغة الأرقام…كفانا اختباء وراءَ إصبعنا…كم كانَ عددُ الشّيعةِ ممّن هم يدافعون عن صدام؟ وكم هم الأشخاصُ الذين تبنوا فِكْرَ صدّام ولكنّهم كانوا من طائفة مختلفة ولم يحظوا بالشعبيةِ نفسها لدى محبي صدام؟
وبلغةِ الحُجّةِ والدّليلِ، سقطتْ بغدادُ بنصف ساعة، وأصبحتْ القدْسُ عاصمةً لإسرائيلَ بعيونِ أقوى رجلٍ في العالم، وتشرذمَ العراقُ وتقسّم، ومازالتْ الكهرباءُ عصيَّة منيعة، ومازالتْ إسرائيلُ تحتلُّ الصّدارةَ في كلِّ المجالاتِ العلمية والاجتماعية والاقتصادية حتى الأمنية؛ فإرثُ صدام هو الخرابُ.
تصوروا أننا لغايةِ اليوم مازلنا نُعانِي من ملفِّ مجهولي المصيرِ تحتَ حُكْمِ صدّام، وما زلنا نعدُّ عددَ ضحاياه؛ أليسَ غريبا يا سادة أنّ بعضكم ممن يدافعُ عن هذا "الرمز" يطالبُ بحريّةِ التعبير في مكان آخر؟ أليسَ غريبا أنّ الديمقراطيّة لديكم لها طائفة؟ فما ترفضونه من العلويّ أو الشّيعيّ تقبلونه من السّنّيّ مثلا وليس حصرا؟
أعرفُ ما سيحصلُ عندِ انتهاءِ البعضِ من قراءةِ هذا المقال، سَأُتَّهم بالخيانةِ والطّائفيّة و.. و.. و..؛ لكي أُهَدِّئَ من نارِ غضبكم اسمحوا لي أن أبيّن لكم أنّني "طائفياً" محسوبٌ على صدَّام وملِّته، أمّا أنتم فأتحداكم أن تستطيعوا مشاهدة الفيديو الذي يُظهرُ عمليةَ إعدامِ معصوبِ العينين، دون أن تنثني ركابكم تماما كالعسكر الذين أحاطوا به.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.