شعار قسم مدونات

الثورة التي أحببتها ولم أنتظر منها الكثير

blogs الثورة المصرية

في مثل هذا اليوم منذ سبعة أعوام، كنتُ في سفر دراسي قصير خارج مصر امتدّ بين الخامس والعشرين من ديسمبر لعام 2010 والخامس والعشرين من مايو لعام 2011. كان محض قدر أن سافرت هذا السفر القصير حين حدثت الثورة، وكان أحد حظوظي التعيسة في الحياة خسارة المشاركة في الثمانية عشر يوما.

 

لم أتوقف عن المتابعة النهمة لأحداث الثورة على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى شاشة الجزيرة التي تحيزت للثورة من يومها الأوّل، وإن كنتُ لم أكن أرى من بعيد سوى المظاهرات ومزيد من المظاهرات، وبعض الأسماء الشابّة التي تصدّرت بقوّة، وتحدّثت باسم الثورة وباسم عموم المشاركين في الثورة من شباب وشيوخ ونساء ورجال. 

 

كانت تنتابني عاطفتان تجاه تتالي الأحداث، الأولى كانت عاطفة حب كبير وتأييد للحدث الجلل الذي حلّ كعاصفة تضرب بقوة جميع مناحي الحياة في مصر، وعاطفة أخرى تقترب من اليأس أنّ تغييرا كبيرا سوف يحدث. فحين عدت للقاهرة كانت هناك دعوات لما سمّاه الشباب "ثورة الغضب المصرية الثانية"، وعلى رغم من وصولي قبل هذه الجمعة بيوم، غير أنّي اخترت ألا أشارك لدهشتي من سذاجة تصوّر أنّ "ثورتي غضب" سيفصل بينهما أربعة أشهر فقط لا غير! كيف يمكن لمن تظاهروا ثورة على حاكم أن يتصوروا أنّهم قد تحوّلوا "لصانعي ثورات" يحدثونها متى شاؤوا!

 

الثورة، بالتعريف؛ حدثٌ هدميّ، أي حدث يهدم وضعا قائما، ولكن لا يمكن مطلقا للثورة أن "تبني". وقد كانت مطالب "ثورة الغضب المصرية الثانية" مطالب تقتضي البناء لسنين. تعجّبت حينها إن كان "الثوّار" بالفعل يعقلون ما يفعلون، أو يفكرون دون تشويش "الغضب" الذي كان بالفعل حقيقيا ومسوّغا في ثورة يناير، لكن لا يمكن تسويغ استمراره ليوجه دفّة مسار يتطلّب العقلانيّة.

 

كانت ثورة يناير ثورة عظيمة، ولكنها لم تكن تستطيع سوى أن
كانت ثورة يناير ثورة عظيمة، ولكنها لم تكن تستطيع سوى أن "تسقط" فقط، أمّا بناء الوطن من جديد فلا يتطلب الاستمرار في الثورة، بل يتطلب العمل الجماعي المنظم والقرار الجماعي المسؤول
 

استمر ت الأحداث المتتالية، وكانت أولى الفعاليات التي شاركت فيها "وقفة خالد سعيد" على كوبري قصر النيل، ثم جمعة الشريعة، ثم آلام محمد محمود ومجلس الوزراء. وفي كلّ فعالية، أدرك أكثر، في حزن، أنّه لا ينتظرنا الكثير في المستقبل، فالشباب والثوار لا يجيدون سوى تنظيم الفعاليات وقيادة المظاهرات والهتافات، والمناداة بقائمة مطالبات كبيرة، يريدون لها أن تتحقق، لكنهم لا يعلمون كيف! إنّهم لا يجيدون شيئا آخر، و"بناء المستقبل" يحتاج لكل شيء سوى المظاهرات المستمرة.

 

كانت دماء الشهداء وإصابات المصابين تتطلّب المسؤولية والتصرّف على مستوى الحدث، وإنضاج الذات لتتأهّل للتعامل مع حدث تاريخي يغيّر مصائر شركاء الوطن، ولكنّ استمرار الغضب كان يعني استمرار نزف الدماء، وفي كل حدث يطالب بحقوق دماء الشهداء، كانت دماء جديدة تنزف.

 

تصوّرَ "الثوار" أنّ عليهم الاستمرار في حمل لقب "الثوار"، ولذا فعليهم دائما صنع ثورات متتالية تفصل بينها عدّة أشهر، لم يدركوا أنّ أحدا لا يمكنه أن يظلّ ثائرا أبدا، والثورة بالضرورة لا تعني الاستمرار في التظاهر وفقط، وأنّ السياسة والتي تعني العمل الجماعي المنظم بقواعد تتعارض مع التظاهر المستمر في الشارع.

 

كانت ثورة يناير ثورة عظيمة، ولكنها لم تكن تستطيع سوى أن "تسقط" فقط، أمّا بناء الوطن من جديد فلا يتطلب الاستمرار في الثورة، بل يتطلب العمل الجماعي المنظم والقرار الجماعي المسؤول. أحببت الثورة ولا أزال أشعر بمرارة خسارة المشاركة في الثمانية عشر يوما بجلالها وقوتها وعظمتها، ثمّ عشت أحداثها قدر ما استطعت، ولكنّ تلك المعايشة قد أخبرتني، بأسف، ألا أنتظر منها الكثير. 

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

إعلان