شعار قسم مدونات

صراع النبوءات.. أنبياء متصارعون

blogs هيجل

"المجتمع يتغير، يتطور. إن تطوُّره بالأساس ليس تطورا متكررا. صحيح أنه بالمدى الذي يكون فيه متكررا، فربما نصطنع له نبوءات محددة".
(كارل بوبر- التوقع والنبوءة في العلوم الاجتماعية)
 
"
بحسب قواعدها المنهجية، يجب أن تتأسس النظرية السياسية الرابعة على رفض المسار المطرد.. وأن أي شيء يستدعي المسار المطرد وتغيراته مثل التقدم و التطور والتحديث يجب أن يُفهَم على الأقل بمفردات النمط الدوري".
(ألكسندر دوجن- النظرية السياسية الرابعة)
  
"
التاريخ مثل فصول السنة، والشتاء قادم
(ستيف بانون- مطلع فيلم "الجيل صفر")
 

قبل الشروع في ذكر النبوءات الرئيسية على خريطة الصراع العالمي الآن بين الشرق والغرب، لا بد أن نبين العلاقة بين ما ذكرناه في المقالات السابقة من صراع بين نظرية الدورات الحضارية ونظرية المسار الهيجلي، وبين النبوءات المهيمنة الآن على جبهتي الصراع في الشرق والغرب. إن الذي نقترحه في هذه العلاقة ظاهر متى تبينَ لنا أن شكل الحركة التاريخية هو الفيصل بين هاتين الجبهتين، فبالعودة إلى فكرة مهمة ذكرها ابن خلدون في مقدمته حول علاقة قيام الدول العامة الاستيلاء بالنبوة أو "الدعوة الدينية"، يتبين أن النبوات لها دور أساسي في تشكيل الدول وامتدادها، ولا نعني بالنبوات أو "الدعوة الدينية" هنا الرسالات المنزلة من الله فقط، بل كل نبوءة تهيأ لها أن تتشكل وتتبناها أمة من الناس وتضطلع بتحقيقها.

وقد بينا في المقالات السابقة كيف استحدثت الحضارة الغربية لنفسها بعد غلبتها وهيمنتها نبوءة ترسّخ وجودها وتجعل تحقق هذه النبوءة نهاية التاريخ، وهو الأساس الذي انبنت عليه نظرية المسار الهيجلي، فإن الشكل الخطي للحركة التاريخية يعني أن لهذه الحركة نهاية وأن لهذا المسار نقطة يتوقف عندها، فلا مطمع لأي أمة في أن تأمل بنبوءة أخرى تتجاوز هذه النهاية أو تنسخها، فنظرية المسار التاريخي إذا تغلق فضاء النبوءات بأن تثبت للتاريخ نبوءة خاتمة. 

إلا أن نظرية هيجل لم تكن وحدها كافية في إحكام هذا الإغلاق وتتميم هذه النهاية، فقد رأينا كيف تفرعت عن نظريته نبوءات اصطرعت فيما بينها، فالماركسية اعتبرت نهاية التاريخ عند الشيوعية، والفاشية اعتبرت نهاية التاريخ عند تفوق عرقها على سائر العروق. وكل هذا لأن هيجل لم يتهيأ له أن يحدد شكل هذه النهاية، حتى أتى فوكوياما بعد زوال خطر الفاشية والماركسية وأعلن الليبرالية نهاية التاريخ. 

أدرج كارل بوبر المجتمعات البربرية تحت مسمى
أدرج كارل بوبر المجتمعات البربرية تحت مسمى "المجتمع المغلق"، ودعا إلى مجتمع ينفتح على آماله وفق إمكاناته العقلانية الآنية، هذا هو "المجتمع المفتوح" الذي لا تقوم مؤسساته على نبوءات طوباوية تروم تحقيقها
 
كارل بوبر (التحقق التام للنبوءة الليبرالية):

أراد كارل بوبر أن يحسم هذا التنازع على نهاية التاريخ فلسفيا، وأن يحدد شكل هذه النهاية بما لا يدع مجالا للتنازع عليه بعد، وجد بوبر أن مقتضى نهاية التاريخ أن لا يتحدث أحد بالتاريخ أصلا، بمعنى أن نهاية التاريخ لا تُبلَغ إلا بالقضاء على النبوءات التاريخية وتفكيكها تفكيكا فلسفيا، فقد رآى أن خطأ هيجل كان في تحديد غاية للتاريخ في شكل أشبه بخطة إلهية. 

إن هذا التحديد هو الذي جعل أتباع هيجل أشبه بالأنبياء المتنازعين على تحقيق خطته، رأى بوبر أن هذه النظرة الهيجلية كانت سببا في بروز أنظمة شمولية لا تختلف في نظرتها للتاريخ عن المجتمعات القَبَلية البربرية القائمة على الإيمان بقوى غيبية سحرية، وهو ما أرادت حركة التنوير نفسها أن تتحرر منه، وقد أدرج بوبر هذه المجتمعات تحت مسمى "المجتمع المغلق"، ودعا إلى مجتمع لا يقوم على مثل هذا الإيمان وإنما ينفتح على آماله وفق إمكاناته العقلانية الآنية، هذا هو "المجتمع المفتوح" الذي لا تقوم مؤسساته على نبوءات طوباوية تروم تحقيقها، بل على نظر في كيفية استغلال هذه المؤسسات وإمكاناتها في تحقيق منافع المجتمع ورفاهيته. وإن كان للنبوءات دور في هذا المجتمع فلن يتجاوز تطويره وترسيخه لا أكثر.

إن هذا المآل الذي انتهت إليه النبوءة الليبرالية في شكلها المهيمن هو الذي يحكم توجهات الاتحاد الأوروبي والحزب الديمقراطي الأمريكي الآن، وعرّاب هذا الاتجاه هو جورج سوروس رجل الأعمال المتنفذ و تلميذ كارل بوبر، الذي سيطور مفهوما جديدا للنبوءة بناء على فكرة بوبر، وقد أوجد سوروس مؤسسة سماها "المجتمع المفتوح" كإحدى أذرعه الكثيرة الساعية لنشر وتنفيذ خطة أستاذه. ولاشك أن هذا الشكل من التطور في النبوءة الليبرالية في نظرنا ونظر أعدائها هو ذروة تحقُّقها وهيمنتها.

إن هذا الفهم لدور نظرية المسار الخطي (والتطوير الذي ألحقه بها بوبر) في منع ظهور أي نبوءة أخرى، قد حدا بكثير من المفكرين المعادين للنبوءة الليبرالية للشروع بحرب فلسفية مضادة هدفها الأساسي هو فتح فضاء النبوءات وإعادتها إلى العمل من جديد، وقد كان أول ما فعله هؤلاء هو تفكيك نظرية المسار ونقدها، وإعادة الاعتبار لنظرية الدورات الحضارية، وقد استمد هؤلاء المفكرون جميعهم نقدهم هذا من أفكار وكتابات العقول الثلاثة التي ذكرناها في المقال السابق: نيتشه وشبنغلر ورينيه جينو.

إن إعادة الاعتبار لنظرية الدورات الحضارية كان لأنها صيغة الحركة التاريخية الوحيدة التي تفتح فضاء النبوءات على مصراعيه، فمعنى وجود دورة حضارية لكل أمة هو أنه بالإمكان أن تقوم نبوءات تنذر بنهاية هذه الحضارة وتبشر بقيام حضارة أخرى، فالزمان التاريخي هنا مفتوح على احتمالات لا تنتهي يمكن لنبوءات الأمم أن تنطلق فيه ساعية لتحقيق نفسها. وسنذكر هنا أكبر نبوءتين تعاديان النبوءة الليبرالية، على أن نكمل ذكر بقية النبوءات وكيف تتفاعل فيما بينها في المقالة القادمة:

ألكسندر دوجن (مواقع التواصل)
ألكسندر دوجن (مواقع التواصل)

النبوءة الأوراسيوية (ألكسندر دوجن):

هذه النبوءة هي أكبر النبوءات المعادية للنبوءة الليبرالية، ونبيها القائم على صياغتها وتشكيلها هو الفيلسوف الروسي ألكسندر دوجن، ويسميه بعضهم "راسبوتين بوتن" لما له من نفوذ قوي في دوائر صناعة القرار والاستراتيجيا الروسية، وقد خرج بنظرية سماها "النظرية السياسية الرابعة" كنبوءة جديدة تحل محل النبوءة الليبرالية، مقتضى هذه النظرية نقد نظرية المسار الهيجلي كشكل للحركة التاريخية، والتبشير بقرب نهاية النبوءة الليبرالية، والإعلان عن قيامة حلف جيوسياسي في مناطق ودول أوراسيا يكون هدفه الوقوف في وجه هيمنة الحضارة الغربية ثم استبدالها بنظرية سياسية جديدة ونظام عالمي جديد، هذا النظام يقوم على أن لكل حضارة فضاؤها الخاص الذي تتشكل وتتقدم من خلاله، وقد بنى هذا الرجل أفكاره بالأساس على آراء هيدجر ونيتشه في نقد الحداثة، وعلى نموذج رينيه جينو في الدورات الروحية.

إلا أن روسيا تكمن في قلب نظرية دوجن باعتبارها البؤرة الاستراتيجية للنبوءة، فهو يراها الوريث الشرعي للإمبراطورية البيزنطية، وهي عنده -كونه مؤمنا بنبوءات الأورثوذكس- الإمبراطورية التي ستمهد الطريق لاستعادة عاصمتها التاريخية القسطنطينية ثم إتمام النبوءة بالاستيلاء على القدس، الأمر الذي سيعجل بالقدوم الثاني للمسيح.

أسس ستيف بانون نبوءة للتاريخ الأمريكي، مقتضاها أن أمريكا على أعتاب انعطافتها الرابعة وهي مقدمة على كارثة يحدد منتهاها بسنة 2025
أسس ستيف بانون نبوءة للتاريخ الأمريكي، مقتضاها أن أمريكا على أعتاب انعطافتها الرابعة وهي مقدمة على كارثة يحدد منتهاها بسنة 2025
 
النبوءة الأمريكية "ستيف بانون"

هذه هي ثاني النبوءات المعادية للنبوءة الليبرالية، وتقوم في نموذجها العام على أفكار رينيه جينو ويوليوس إيفولا في أن الحضارة الغربية مقدمة على كارثة محققة، ويرى هذا النموذج أن هذه الكارثة هي نتيجة لهمينة الصيغة البوبرية للنبوءة الليبرالية، ويرى أصحاب هذا النموذج ضرورة إنقاذ العرق الأبيض من تبعات هذه الكارثة. ونبي هذا النموذج هو ستيف بانون، رئيس حملة ترمب الانتخابية، ومستشاره السابق. 

يؤمن بانون بنظرية الدورات الحضارية، فقد قرأ رينيه جينو ويوليوس إيفولا وأوزوالد شبنجلر، وآمن بفكرة الدورات الحضارية، وحاول أن يصوغ لأمريكا نموذجا في الدورات الحضارية يفسر من خلاله تاريخها، ويبني عليه نبوءة لمستقبلها. ولذا فقد تبنى فكرة دورة الأجيال التي صاغها ويليام شتراوس ونيل هاو في كتابهما "الانعطافة الرابعة" كنمط يفسر التاريخ الأمريكي، ومقتضى هذه النظرية أن أمريكا مرت عبر تاريخها بأنماط متكررة من الحركة التاريخية في شكل دورات للأجيال تشبه فصول السنة، تبدأ كل دورة منها بكارثة تمر بعدها بانعطافات أربع مدة كل انعطافة عشرون سنة، يبدأ منحنى هذه الدورة في الصعود ثم يهبط حتى يصل إلى كارثة أخرى. 

أسس بانون من هذه النظرية نبوءة للتاريخ الأمريكي، مقتضاها أن أمريكا على أعتاب انعطافتها الرابعة، وهي مقدمة على كارثة يحدد منتهاها بسنة 2025، وقد بنى حملتة لترمب على كون الأخير هو الذي سيعبُر بأمريكا خلال هذه الكارثة القادمة، وستزهر بعدها الدولة ويبدأ ربيعها من جديد على النحو الذي بدأه بها مؤسسوها.

نبوءات أخرى

على خريطة الصراع نبوءات أخرى تدور في فلك النبوءات الكبرى التي ذكرناها، وهي: النبوءة الصهيونية والنبوءة الفارسية والنبوءة الصوفية، وقد وضعنا هذه النبوءات على هامش النبوءات الكبرى المصطرعة لأن فضاء حركتها تابع بالضرورة لتلك النبوءات، بحكم طبيعتها ومحل القائمين عليها في نفوذهم من القوى الكبرى. وسنشرح هذه النبوءات وعلاقاتها وتحالفاتها مع النبوءات الكبرى في المقال القادم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.