يستمر مسلسل توزيع التهم والنكت بين جميع الأطراف في الأردن، من حكومة مرورا بنواب إلى أحزاب وصحافيين ونُخب وغيرهم، وانتهاء بعامة الشعب. فالكل يضع الكرة في ملعب الطرف الآخر متهما إياه بالتقصير، وحقيقة الأمر أن الكل شريك في ما آل إليه حال هذا الوطن الجريح اليوم، وإن اختلف مقدار نسبة التقصير من طرف إلى آخر، والتي يمكن قياسها بعوامل منها؛ مدى حجم هذا الطرف او ذاك، تأثيره، شعبيته، طرحه والعديد من العوامل الأخرى.
لو أردنا إسقاط ما أوردته في المقال السابق حول تصنيف الدول، فسنجد أن الأردن دولة من الصنف التابع وليس المتبوع، وهي من الصنف الفرعي الذي قد غدا بحالة موت بطيء، لكن موته قد بدأ يتسارع بفعل وضع قشّات إضافية على ظهره المحني. لا شك بأن الناظر إلى سياسة النظام الأردني يستطيع أن يرى بالأدلة والأرقام مدى أزمة الفشل الإداري التي وضعت الأردن في موقف أخطر مما قد يظن الكثيرون. فعلى مستوى السياسة الخارجية، يحاول النظام أن يُظهر للجميع أنه يقف على مسافة واحدة من جميع الدول. عدا عن أن اتباع هذه الاستراتيجية دليل ضعف، فإنك تجده يؤمن أحيانا بها، وأخرى تجده غير معتبر لها.
من الأمثلة التي باتت لا تعد ولا تحصى، النظام الأردني يريد أن يقيم علاقات مع الولايات المتحدة ويحصل منها على تمويل مالي سنوي، ويقيم من أجل ذلك وغيره علاقات مع إسرائيل، لكن في نفس الوقت يريد أن يحافظ على إدارة الأوقاف الدينية في الضفة وأحقية الفلسطينيين بالقدس الشرقية. السؤال للنظام: ماذا لديك من أوراق قوة تمكنك من التفاوض مع الأقوى منك وفرض شروطك؟ إن الحصول على مال أي دولة من الدول المتبوعة، سيجعل السياسة الخارجية كلها مع الوقت في يد ذلك الأقوى. قيمة المساعدات اليوم في تزايد ولا وجود لخطة فاعلة لعدم الاعتماد عليها أو حتى تقليلها.
التظاهر بهدف إسقاط رأس النظام لا من أجل الدعوة إلى ملكية دستورية، سيدخل الأردن في فوضى عارمة، كما أن بقاء النظام الذي توفي بأحضان الفساد، سيجعل من البلاد فريسة لاغتيال أو انقلاب عسكري |
ولا شك أن التاريخ الحديث لبعض أنظمة كانت بيننا بالأمس القريب، يؤكد أن مساعدات الغرب تضع اقتصاد الدول أدراج الرياح وتنشر الفساد بين مسؤولين أصبحوا جنودا للدول المانحة فيأخذوا حصصهم من تلك المعونات عبر عقود إعمار وتعيينات مشبوهة تتجاوز كل من يستحقها، وأما ما بقي فيذهب للشعب المغلوب على أمره والذي لا بد أن يثور لاحقا كنتيجة طبيعية لهذا الجبروت، فليس أصعب من قهر نفس مُستضعفة. فإن لم تكن هناك تبعية للغرب كما حدث للبعض الآخر من الأنظمة، فالشعوب تتحرك بسبب الإقصاء الذي ولّد الظلم والفساد. إذا هي حلقة مفرغة محاورها؛ الإقصاء، والظلم، والفساد.
الأردن بالأمس القريب يعتمد تماما على دعم المعسكر الغربي، ويدير ظهره لروسيا وإيران وسوريا وتركيا، لكن بعد أن دخل الاحتلال الروسي الإيراني إلى سوريا، بدأ يتودد إلى هاتين الدولتين على استحياء فيقدّم رِجلا ويؤخر أخرى. أما بالنسبة للعلاقة مع تركيا، فيظهر من تحركات الساسة الأردنيين أنهم يفضلون التحالف مع إيران مؤسِسة "الهلال الشيعي" عوضا عن تقريب حتى إصبع القدم الصغير نحو أنقرة، إلا أن النظام الأردني وجد نفسه مضطرا لغمز الإسلاميين في تركيا، فأظهر في الآونة الأخيرة تقاربا محدودا نحوهم. ولعل هذا التقارب قصد فيه الأردن الضغط على إسرائيل من أجل الاعتذار عن مقتل أردنيين إثنين على يد أحد حراس السفارة الإسرائيلية في العاصمة عمان. ومن المتوقع عودة الفتور مع الأتراك بعد أن قدمت إسرائيل الاعتذار للأردن، إلا إذا أراد الأردن استمرار استخدام هذه الورقة، وهذا مستبعد لأنها آخر وأضعف ورقة لديه.
السؤال للنظام مرة أخرى: ماذا لديك من أوراق القوة حتى تفرض نفسك على غيرك وتصنع حلفاء دائمين، فمن أدرت لهم ظهرك بالأمس لديهم من القوة ما جعلهم إما يفوقوك عسكريا أو شعبيا على الأقل، فلماذا الإصرار على العودة إلى الحضن الصهيوني الذي لم يرك يوما سوى دولة تابعة؟
حتى نستوضح الأمور أكثر، لابد لنا من الالتفاف رجوعا إلى السياسة الداخلية للنظام، والتي هي بطبيعة الحال منبع فلسفة السياسات الخارجية للدول. من المعروف أن المكوّن السنّي يشكل معظم النسيج الديمغرافي الأردني، ومن هذه القاعدة انطلقت جماعة الإخوان المسلمين، التي انتهجت خطها السياسي بالمشاركة بانتخابات مقاعد النواب والبلديات في دورات عديدة. دق صعود الإسلام السياسي في ثمانينيات القرن الماضي ناقوس الخطر لدى النظام الأردني، خصوصا بعد أن تهاوت الأيدولوجيات الأخرى عقب هزيمة حرب 67، مرورا بتوقيع كامب ديفيد في مصر، إلى استطاعة الإسلاميين القضاء على الاتحاد السوفيتي في أفغانستان بدعم أميركي. وقبل هذا كله شكل اغتيال وصفي التل ضربة قاتلة للحس الوطني الذي تاه من وقتها في غياهب الظلمات.
الإسلاميون اتفقنا معهم أم اختلفنا، كانوا وقتها يملكون عوامل بقاء أقوى من النظام نفسه، فإذا عملوا باحتراف فإن وصولهم إلى مقاعد الحكومة سيكون مسألة وقت فقط. تحرك النظام الذي يقوده من خلف الكواليس جهاز المخابرات العامة مستخدما دُماه، فاتبع خطة استراتيجية بعيدة المدى تمثلت في اختراق الحركة الإسلامية وإضعافها من الداخل، بالموازاة مع ذلك عمد النظام إلى تزوير الانتخابات ووضعهم موقع الفاشل، عدا عن تجييش المرتزقة من الإعلاميين و"البلطجية"، للتأكد من إيصالهم إلى حالة الموت السريري التي نراها اليوم.
السؤال الآن، بماذا يمكن أن نفسر صداقة إسرائيل وفي نفس الوقت محاولة النظام الجدية الحفاظ على القدس الشرقية، بينما حلم إسرائيل يصل حتى الفرات؟ وهل عجز النظام عن قراءة تاريخ وحاضر المنطقة، بأنه لا يمكن نزع العقيدة من عقول الأكثرية مهما حصل، فأين نذهب له بكل هذا المكوّن السنّي؟ وبماذا نفسر عداء النظام للإسلاميين وكل من يحاول أن يمثل الشعب عبر صناديق الاقتراع؟ وكيف يتم تعيين حكومات متعاقبة استمْرت في حلول رفع الأسعار وضربت جذور الفساد في طول البلاد وعرضها؟ لماذا التعنّت وعدم القبول بالتجربة الأوروبية التي أبقت على الملوك بمناصب فخرية ولم تعزلهم إلى اليوم؟ هل من تفسير منطقي لما سبق، سوى أن الهمّ الوحيد للنظام هو الحفاظ على كراسي الجهاز الأمني والساجدين حولها من منتفعين وجهلة؟
إن التظاهر بهدف إسقاط رأس النظام لا من أجل الدعوة إلى ملكية دستورية، سيدخل الأردن في فوضى عارمة، كما أن بقاء النظام الذي توفي بأحضان الفساد، سيجعل من البلاد فريسة لاغتيال أو انقلاب عسكري يقوم به فرد يدعي الوطنية من منتسبي الجهاز الأمني أو العسكري تحت اسم المخلّص، فيصِل إلى السلطة ويجلس على العرش لتأخذه العزة فلا يقوم عنه، وهذا جل ما يريده الغرب، ديكتاتور مطيع مثل مبارك أو الشاه أو ديكتاتور متمرد قليلا مثل السيسي واجهة العسكر في مصر. ولا ننس أن أفراد الجيش والأجهزة الأخرى في الأردن يأخذون فتاتا من الرواتب مقارنة بأصحاب العطوفة والمعالي.
ظهر الاستقطاب الشديد لعدم تقبل الآخر بوضوح في الأردن عبر قضية المناضلة عهد التميمي، فالإسلاميون صار عندهم تحفظ على عدم وضع عهد للحجاب بسبب عمرها، وتداول البعض صورا لها تتصرف فيها تصرف المقهور على وطنه. في المقابل تبنى العلمانيون قضية عهد بشدة متجاوزين المحجبات اللواتي ما زلن مثل عهد يقدمن زهرة أعمارهن في سجون الاحتلال.
خرج الحل عن يد نظام الدولة العميقة منذ زمن، وعن يد الملك من يوم استلم. وبقي بيد الغرب القليل وأما الكثير فهو بيد النخب أولا وعامة الشعب ثانيا. ولا بد من الضغط من جديد لعودة أمثال عون الخصاونة والاستمرار بدعمهم حتى النهاية. وأساس هذا أن يعي الوطنيون أنهم نواة أي فكر وأيدولوجيا قد تنهض بكل وطن. وأن تعي الحركات الإسلامية من إخوان مسلمين ومن يتفق معهم أو يختلف من سلفية وصوفية، ومسيحيين وعلمانيين وبقية الطوائف والانتماءات، أنه إذا أراد أي منهم إثبات صحة فكره أو دينه، فليقدّم للوطن من قلبه ولينفتح على الآخر بمحبة، فإن فعل، فلا بد للطرف الآخر أن يبدأ بتغيير نظرته إليه وربما يقتنع بطرحه. وإن لم يفعل فانغلاقه على الآخر سيكون مع الوقت سيفا مسلطا على قومه ليقودهم نحو الفناء كما حصل لكثيرين غيرهم. الآن ودائما يجب أن ينصهر أي شعب في بوتقة إنقاذ الوطن من أرض وبشر.
من يحب الوطن فعلا، هو الذي يحرص على ألّا يبيت أطفال بالجوع والبرد تعبا من شدة البكاء، بينما أمهم الأرملة في الخارج تبحث لهم عن كسرة خبز على أطراف الحاويات والمزابل. أما من يتعدى على حق هؤلاء المساكين فليأخذ دينه وفكره ويرحل، وإلا فالأيام كفيلة بترحيله!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.