نكبر شيئا فشيئا مع الحياة ونغوص في تجاربنا، منا من يولد وملعقة الذهب في فيه، منا من يعيش في ظروف متوسطة ومنا من يكبر قبل عمره وتجعل منه الحياة كهلا أو امرأة في جسم صغير. ثم ماذا؟ فيما بعد نعيش حياة فسيفساء من المشاعر، ننجح ونفشل، نبكي ونضحك. هناك من يعيش حياة متوازنة وهنالك من يكون ضحيةَ ظروفه، هنالك من يسلط عليه التنمر، وهنالك من يخذل؛ نَعَم يخذل من أشخاص أحبهم كثيرا، يتفنن ابن آدم في البؤس البشري، يتنافسون من الأسوأ، من الأقسى، من الأقبح، تنافسنا في البشاعة حتى نسينا الجمال.
بعد عدة صفعات من الحياة وخوض عدة تجارب، هناك من سيتألق ويحلق عاليا وغيره سيفشل، ويحاول من جديد ولعله لن يوفق، سيموت الأمل فيه، منا من لا يستسلم، ومنا من يذبل تدريجيا إلى حد الموت، ولكن أحيانا ستموت بسبب اختيار غير صائب يجبرك واقعك على التعايش معه. نعم ستموت بصفعة، بتهمة، بصراخ، بخيبة، بفقر، بفشل، بفراق عزيز، بسرقة حلم، نعم ستموت ولكنك لن تدفن في قبر، بل ستكمل العيش وستشهد على موتك كل يوم. ربما لن توفق في دراستك، ربما لن يكون الخيار الأنسب، ربما ستفشل، ربما ستنجح ولكن ستتعلم، ففي كل تجربة هنالك درس، ولكن هل ستدرك الدرس؟
نظن أننا نولد في مستشفيات، محاطين بأطباء وممرضين، لا، هذه ليست ولادتنا الحقيقية، لا أنكر ذلك، فالولادة هي لحظة الصفر، لحظة البداية، ولكن هل خروج كل منا للحياة يمثل ولادته الحقيقية؟
ستكتشف أنك ربما ستولد حقا في التاسعة من عمرك ولن تلدك أمك، ستولد في القسم وسيشرف معلم العربية على ذلك مكتشفا موهبتك، قلمك، أما غيرك سيولد في الخامسة عشر من عمره، وسيولد في النادي، وسيشرف على ولادته مدرب كرة القدم كاشفا عن رياضي صاعد، شخص آخر سيولد في المسرح، الآخر في كلية الطب، الأخرى في كلية الحقوق، غيرها في كلية العلوم، سيولد كل منا في عمر معين ومكان معين وعن طريق حدث أو شخص معين.

ثق بالله، اعمل وابحث في نفسك عن نفسك، ماذا تريد؟ ما هو شغفك؟ هل أنجزت وحققت ما تريد؟ من أنت في كلمتين؟ من أنت في كلمتين؟ هل أجبت على سؤالي؟ هل لا تزال تفكر؟ إن أجبت على السؤال ممتاز وإما لا، فعليك التفكير حقا في وضعك، أنت مخلوق مميز ولم تخلق عبثا، لا يشبهك أحد، ميزك اللهُ عن غيرك بمواهب وقدرات، ولكن يبقى سؤالي؛ هل اكتشفت تلك القدرات أم الرحلة لا تزل متواصلة؟
كل مياه البحر لا تقدر على إغراق السفينة إلا إذا تسلل الماء داخلها، كذلك اليأس لا يستطيع أن يسيطر عليك، إلا إذا تسلل الخوف إلى نفسك. كفاك تذمرا ولعنا لحظك، كفاك إبداعا في كتابة أغنيةَ حظك الحزين وواقعك الأليم، غير لحن موسيقاك، اختر أجمل النغمات وتفنن في تحفيز نفسك وتغيير واقعك. ألم تستنفذ طاقتك السلبيةَ بعد؟ فإذا كنت مستمتعا بنغمك الحزين فإن هجر حظُك لك صار مبررا، لقد ضجر رفقتك.

تذكر دائما أن الطائرة تقلع ضد الريح، الحياة عبارة عن حلبة صراع، سوف تتلقى الضربات من كل جهة، حاول دائما استخدام سلاح جديد، لا تستسلم أبدا، هل سمعت يوما بملاكم انتصر فقط لأنه صمد لضرب خصمه؟ علَيك الضرب بكل قوة، ضرب جدار الصعوبات والعراقيل الذي منعك من النجاح، أجبر الألم على إعادة ترتيب اللام والميم وساعد الأمل على رفع رايةَ نصره، لا تنتظر الفرصةَ المناسبةَ، لا اليوم المناسب، لا حدوث معجزة ولا الشخص المناسب، اصنع أنت فرصتك، أنت لست في غرفة إنعاش تنتظر قدوم الطبيب المسعف لإنقاذك، كن طبيب نفسك ومسعفها، عوض التمعن في شمس إبداع الآخر، ابحث في نفسك عن نفسك، ألم يحن لشمسك أن تشرق؟ فلتشرق شمسك الآن معلنة ولادتك الحقيقيةَ.
أنت لست ما يعتقد الآخرون، خلقك الله وميزك عن غيرك، انهض إذا واعمل بجد وأضف الألف واللام لشخصك النكرة، عليك أن تؤمن بنفسك، بأفكارك، بكل فكرة غريبة وغير مألوفة، انهض وسر في سبيل الحياة وساعد ذلك البائس النائم داخلك على النهوض والتعرف على نقاط القوة في شخصه، لا يأس مع الحياة، ما دام قلبك لا يزال ينبض فإنه بإمكانك المزيد، أنت قادر، كما قال أبو القاسم الشابي: ألا انهـضْ وسـرْ فـي سـبيلِ الحيـاةِ فمــن نــامَ لـم تَنتَظِـرْهُ الحيـاة.
الذات بلا أحلام وأهداف كجسد بلا روح، كشتاء بلا أمطار، كفصول بلا ربيع، كربيع بلا زهور، كزهور بلا عطر، كليل بلا نجوم، كنجوم بلا بريق. الأحلام بلا عمل ومثابرة كشجرة بلا ثمار، كحلم كاذب، كثمار بلا نكهة، كبحر بغير أمواج، كقوس قزح بلا ألوان.
أخيرا، أنت يا من مللت البحث عن عمل، أنت يا من طردت من عملك، أنت يا من أساء أحدهم إليك، أنت يا من تعبت من المرض، أنت يا من قيل لك إنك لست بجميلة، أريدكم الآن وليس بعد أن تأخذوا نفسا عميقا وأن ينفض كل منكم ما تركته تجربته السابقة من غبار على كتفيه، كل منا يعد نفسه أن يتألق ويتفوق لا عليها بل على الصورة التي ألبسوه إياها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.