شعار قسم مدونات

رغيف الخبزِ والكرامة

blogs الفقر

تُذكّرنا الحمى بضعفِ أجسادِنا، بأولوياتِنا، باحتياجاتِنا، بفقرِنا وعجزِنا وعَوزنا.. تُذكّرنا الحمى بويلاتِ الحروبِ التي قصفت بيوتاً على مَقربةٍ مِنّا.. أصابتْنا الغفلةُ في ساعةِ حمى لم نقاومْها فأنهكَتنا موتاً ورحيلاً وغرَقاً وقصفاً واستسلاماً… نامت أعينُنا فغطينا في سباتٍ عميقٍ، أخبِروني كيف تنامُ أمةٌ بأكملِها؟ كيف؟!

تذكّرنا الحمى بألمٍ يعصِف بطفلٍ ما استطاعَ والدُه أن يؤمّن له بطانيةً تدفّئ سريرَه المفترش بالثّرى ولا يجذب انتباه أحد، وطفلٍ يتلذذُ بكلّ ما تشتهيه النفسُ من مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ من أفخم الماركاتِ العالمية، فتتنافسُ عليه وسائلُ الإعلامِ والسوشال ميديا في تصويرِه ونشرِ صوَره على نطاقٍ واسع، ليتمّ تداولُ صوَره بآلافِ المشاركاتِ والتعليقاتِ الجميلةِ المحببة، يا لها من مفارقةٍ عجيبةٍ، ومعادلة لا إنسانية..!

 

تذكّرنا بطمعِ البعضِ وهُم يسرقونَ من ثمنِ رغيفِ الخبز مكراً وجشَعاً.. الناسُ تبحثُ عن فُتاتِ الخبزِ في حاوياتِ الأثرياءِ جوعاً، يبحثون عن الضحْكات التي سُرقت في وضَحِ النّهار. قد فلحوا في صناعةِ أزمةِ فقرٍ وانتزاعِ الحقّ، كي لا يفكرَ الناسُ إلا في كيفيةِ تأمينِ رغيفِ الخبز.. أخبرونا يوما أن الوطنَ هو رغيفُ الخبزِ والكرامة، فأين الخبزُ؟ وأين الكرامة؟؟

 

تذكرني هذه الحمى اللعينةُ بمرضى لا يملكون المالَ الكافيَ لإرضاءِ طبيبٍ أو شراءِ علاجٍ يسكّن آلامَهم.. الطبيبُ هو الشاهدُ الوحيدُ على الضعفِ البشريّ، هو الشاهدُ على ما تؤولُ إليه الحالُ بعد المحال، أقسم بأن يمارس مهنة الطبّ بضمير، وفشل كما فشلت أنظمتُنا في إبقاء الرقيّ الأخلاقيّ، والتغلب على الفسادِ الذي يجتاح كلَّ أنظمة الدولةِ من السياسة والتعليم والاقتصادِ، فانتقلت العدوى إلى مستشفياتنا وأطبائنا، وصحتنا، ونتائجِ فحوصاتنا، وأدويتنا الباهظة الأثمان، والأخطاء الطبية، وجشع الاستغلالِ وغيابِ الضمير..

 

تذكّرُني الحمى بالأنفسِ كم تحتدّ تحقد وتخطئ وتذنبُ وتتكبرُ وتقسو وفي لحظةِ ضعف تنكسر فتدنو قربَ خالقِها يا شافي اشفِ.. تذكّرني الحمى بحاجتِنا للرقي الإنساني، للعدلِ والمساواة بين البشر، تذكرني بحاجتِنا للمقاومةِ والثورة على النفسِ وعلى المظاهر والشعاراتِ المزيفة، ضدَّ الجوعِ والفقر والعوز، تذكرني بمقولةٍ ردّدناها كثيراً وما يوماً استجبنا لها:

"إذا الشعــبُ يومــاً أراد الحيــاة
فلا بـــدّ أن يستجيب القــدر
ولا بـــد لليــــلِ أن ينجلـــي
ولابـــــد للقيـــــد أن ينكســر"

 

تختلفُ الأنوار، في شكلِها، في وضوحِها، في مصدرِها ومكانها، ولكنه النور، نتعلق به، نحلق به، نستمد الخيالَ منه، ونحلم من خلاله، نسافرُ على مهل من عالم لا واقعي إلى آخر أكثر أماناً
تختلفُ الأنوار، في شكلِها، في وضوحِها، في مصدرِها ومكانها، ولكنه النور، نتعلق به، نحلق به، نستمد الخيالَ منه، ونحلم من خلاله، نسافرُ على مهل من عالم لا واقعي إلى آخر أكثر أماناً
 

داهمتِ الحمى جسدي حتى باتتِ الحياةُ تَصْغُر كهزلانِ أجزائي، نسيت قلقاً كان قد أصابني لكتابةِ واجب علي تسليمه في صباح الغد، ونسيت أن أنسقَ ألوانَ لباسي، وتكنيسَ غبارِ غرفتي، نسيت أن أُسرّح شعري، ونسيت طِلاءَ أظافري، نسيت أن أنظرَ إلى المرآة قبل أن أغادر البيت إلى عملي، ونسيتُ أوراقَ الامتحاناتِ التي كان عليَّ تسليمُها لطلبتي..

جلست لوهلةٍ أتفحص أدويتي، وأعرف في قرارةِ نفسي أنها لن تفلحَ في خفض حرارةٍ كانت قد أنهكت أجزائي وهدت كياني وأجهدتني بلا شفقة، وهل تشفق الحياةُ على أرواحِنا ونحن نسلم لها أنفسَنا لننجُوَ من قسوتها! الصبرُ ثم الصبرُ هو مفتاحُها فإما الهلاكُ وإما النجاة.. فاستسلمت لفراشي، ولبرودةِ الضماد الخافضِ للحرارة.. ارتميتُ في سريري لأيام، أحاولُ الوقوفَ فأفشل، أحاولُ بشقِّ الأنفُسِ لأقيمَ ظهراً اعوّجَ من طول مدة المكوثِ في السرير.. أرى نوراً يدخل من شباكِ الغرفةِ كلّ صباح، ونوراً يدخلُ من باب الغرفة كل مساء..

تختلفُ الأنوار، في شكلِها، في وضوحِها، في مصدرِها ومكانها، ولكنه النور، نتعلق به، نحلق به، نستمد الخيالَ منه، ونحلم من خلاله، نسافرُ على مهل من عالم لا واقعي إلى آخر أكثر أماناً، بين النور والنور، شعاعٌ يلهم مشاعرَنا، يشفق، يسعد و يحزن، على مقلة العين سرٌّ يرى كلَّ النورِ سلاماً، فسلام على نور خلق للسلام…

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

إعلان