يوظف كيان العدو الصهيوني علم الآثار وسيلة لاختلاق ماضي "عبري إسرائيلي يهودي"، يسوغ حقه في الوجود كدولة. فأصبح علم الآثار في فلسطين، علم مجند في خدمة الأهداف السياسية. و"سلاحا مقنعا في الصراع في سبيل امتلاك الأرض". يقول المؤرخ البريطاني، كيث وايتلام، في كتابه "تلفيق إسرائيل التوراتية طمس التاريخ الفلسطيني": "إن الصراع حول الماضي إنما هو دائما صراع من أجل الهيمنة والسيطرة في الحاضر".
كتبت نادية أبو الحاج، في كتابها "وقائع على الأرض ـــ مزاولة علم الآثار وادعاءات تملك الأرض في المجتمع الإسرائيلي": إذا كان علينا فهم ممارسة التنقيب عن الآثار وما استتبعه، لا يمكن استبعاد البعد الاستعماري للاستيطان اليهودي، أو إذا أردنا الذهاب إلى الأساس، إذا كان علينا فهم القوى المحركة وراء بناء الدولة "الإسرائيلية" القومية وحدود المخيلة القومية التي تبلورت في نطاقها".
يمكن ملاحظة هذا المنحى السياسي في ما يسمى "الاستكشاف الأثري" في مدينة القدس، إذ يتركز النشاط "الأثري" في المنطقة التي تسمى "الحوض المقدس" أو "الحوض التاريخي"، وهي المنطقة التي تضم البلدة القديمة ومحيطها، بالإضافة إلى السفوح الغربية لجبل الزيتون، وسلوان، ووادي حلوة، وحي البستان، ووادي الربابة، وتمتد إلى الشيخ جراح شمالا. وهي منطقة غنية بالمواقع الأثرية، وتقدر مساحتها بحوالي 2.5 كم2. ظهر مصطلح "الحوض المقدس" أو ما يسمى أحيانًا بـ "الحوض التاريخي" لأول مرة خلال مفاوضات كامب دافيد 2000، وما تلاها من محادثات صهيونية فلسطينية، ومنذ ذلك الحين شاع تداول المصطلح في المحافل السياسية والبحثية كمفهوم جيوبوليتكي ذات مرجعية دينية وقومية.
تُعد الحفريات الأثرية في منطقة "الحوض المقدس" ذات حساسية شديدة خاصة إذا أجريت لتحقيق
أهداف سياسية بحتة لغرض تعزيز سيطرة جهة معينة، أو لإثبات أحقية السيطرة من خلال الشواهد والأدلة التاريخية. ومن هنا تظهر خطورة انخراط الجماعات اليهودية المتطرفة في الحفريات الأثرية، وتنامي دورها في إدارة بعض المواقع المقدسة في القدس، وتبنيها لأيديولوجية أصولية تنفي وجود جذور تاريخية للمسلمين والمسيحيين في المنطقة.
في هذا السياق، تعمل سلطة الآثار "الإسرائيلية"، بالشراكة مع جمعية إلعاد الاستيطانية (Elad Foundation) أو عير دافيد (Foundation Ir David) [التي تعني أولياء مدينة داوود أو العودة إلى مدينة داوود (El Ir David: to the City of David)، التي تشكلت في القدس المحتلة عام 1979 م، كجمعية أو شركة غير ربحية، وأعلن عنها في أوائل الثمانينات، وبدأت نشاطها في تسعينات (القرن الماضي) من خلال تأسيس أول بؤرة استيطانية في سلوان] . على مدار الساعة في حفريات مجنونة أسفل مدينة القدس، لحسم هوية القدس الثقافية والدينية كعاصمة مقدسة للشعب اليهودي من خلال تدمير وتزوير الآثار الفلسطينية، واختلاق آثار "عبري إسرائيلي يهودي".
وإذا كانت القدس هدفا للنشاط الأثري، فإن سلوان هي الهدف الأهم، لأنها تُشكل في المخيلة موقع مدينة "أورشليم" القديمة (أو ما يسمى "مدينة داود"). وتأخذ "إلعاد" بصفتها هيئة لحفظ التراث على عاتقها، إحياء هذه المدينة واسترجاعها من أيدي محتليها الفلسطينيين وفقا لقولها.
يقول د. مائير مارجليت، في كتابه "إسرائيل والقدس الشرقية استيلاء وتهويد": أعرب عدد من رجال الآثار "غير المستوطنين" عن قلقهم لما أسموه "حفريات أثرية ضحلة ومتوحشة"، وقالوا إن المستوطنين يقومون بجمع تلك المواد التي تؤيد وجهة نظرهم فقط، ويدمرون أو يهملون موادا لها صلة بتاريخ تواجد إسلامي أو مسيحي قديما. ففي شهر (أيار/ مايو) 2008، على سبيل المثال، وفق ما نشرته صحيفة هارتس، عُثر خلال عمليات الحفر في موقف سيارات جيعفاتي (Givati)، على عظام بشرية، ولكنها ببساطة اختفت. فضلا عن ذلك، فإن ممارسة أعمال الحفريات على شكل حفر أنفاق أفقية، مثيرة للجدل، ولا تعتبر طريقة أثرية علمية، لأنها تضع صعوبات أمام فهم الطبقات المتعددة والفترة التي استخدمت فيها..
جاء في كتيب "علم الآثار في ظل صراع القدس القديمة"، لمؤسسة "عمق شبيه" [مؤسسة تضم علماء آثار "إسرائيليين" ينتقدون استعمال كيان العدو الصهيوني البحث والحفريات الأثرية لخدمة حاجات ودواعٍ سياسية وإيديولوجية] ما يلي: "منذ مائة سنة توقفت عملية حفر الأنفاق اﻷفقية تحت الأرض، ولم تعد تعتبر أسلوبا علميا أثريا مشروعا، فقد تم استبدالها بالأسلوب الطبقي، حيث يتم حفر اﻷرض عموديا من السطح وحتى أسفل الأرض. هذا الأسلوب يمكننا من التوصل إلى فهم أفضل للمكتشفات الأثرية وطبقات الأرض المختلفة، ويمنع الأضرار غير اللازمة".
ونختم مقالنا، بما قاله يوناثان مزراحي، وهو عالم آثار سابق في سلطة الآثار الإسرائيلية: "هذا موقع مهم، ولكن لإلعاد مخططا واضحا جدا. فهي تريد استخدام علم الآثار، حتى علم الآثار الزائف، من أجل تأمين الغطاء لمخططها السياسي القاضي بطرد فلسطينيي سلوان، ويبدو كأنهم يضعون مخططا لسلطة الآثارالإسرائيلية أيضاً".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.