من حكمة الله تعالى في هذه الحياة أن الكون يمشي بنظام دقيق، ومن عدله عز وجل أن الحياة تسير وفق سنن إلهية ثابتة أحكمها الحكيم الخبير وتخطيط رباني أتقنه من وسع كل شيء علما، ولا يمكن لأمة من الأمم أن تنهض إلا وفق هذا النظام وعلى ضوء هذه السنن، ومن ذلك أن جعل الله لكل شيء سببا، فالجد والاجتهاد في بذل الأسباب والأخذ بسنن الله في الحياة هو السبيل للوصول إلى الأهداف المرجوة والغايات المطلوبة، وعلى هذا التقدير الإلهي تكون سنة التغيير التي لا تتم إلا ببذل الأسباب والأخذ بالوسائل التي هيأها الله تعالى "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ".
والملامس للواقع يجد أن ثمة أوهام مخدرة للأمة، وكان لها النصيب الأكبر في استمرار أزمتنا كأمة، ومنها التهرب من الأسباب الأساسية والتي تعد رأس الحربة فيما وصلنا إليه، واستدعاء أسباب فرعية أو اختلاق أسباب أخرى وشماعات جاهزة نسارع لإلصاق التهم بها فور أي هزيمة منينا بها، دون مراجعة للذات ودراسة حقيقية لأسباب الهزيمة، مكتفين بلوم شياطين الغرب والشرق والوسط، ونواجههم كلهم بالدعاء بأن يهلك الله الظالمين ويزلزل عروش الكافرين، وننتظر المعجزات والكرامات والمدد الرباني والتأييد الإلهي، ونستحضر آيات النصر والثقة والأمل، وننقب عن الكرامات والأحداث السابقة، مع نسيان الأصل أو تناسيه وهو بذل الأسباب التي في وسعنا وانتهاج وسائل بديلة أجدى وأنفع.
نجد البعض يفني عمره وجهده في الاستحضار والتبرير لأخطاء ماضية متناسيا بشرية أصحابها وإمكانية أن يصدر منهم الخطأ والصواب، أو الإغراق في وهم ساذج مدعيا أنه المخلص لنا |
وننسى أن ما يأتي من كرامات وغيرها إن أتت فهي استثناء لا أصل، وأنا هنا لا أقلل من شأن الدعاء بقدر ما ألفت النظر لواقع مر نواجهه بالدعاء، بل والتعدي في الدعاء أحيانا كثيرة وننسف الكرة الأرضية كلها في دعائنا لنبقى نحن ونحن فقط على قيد الحياة، ونغفل عن السنن والأسباب، والواقع أن أغلب ما يصيبنا هو من أنفسنا وأن ضعفنا هو الذي أوجد مجالا للغرب وغيره أن يتحكم فينا لا العكس.
لقد استطاعت إسرائيل أن تجمع اليهود من أكثر من "120" دولة خلال نصف قرن، وبذلت الأسباب المتاحة وشكلت بهم دولة من أرقى الدول، وأنا هنا لا أبارك أو أمجد صنيعها، بل أقول إنها على ماهي عليه بذلت الأسباب التي جعلها الله تعالى في متناول الجميع، واكتفينا نحن بالدعاء عليها وسنن الله العدل لا تحابي أحدا، حتى أنبياء الله ورسله لم يأتهم النصر والتمكين إلا بعد أن بذلوا وضحوا وعملوا بسنن الله في التغيير وعانوا كثيرا، فلم يأتهم النصر في أطباق من ذهب وإنما سلكوا سبله وأسبابه، لأن النية الحسنة لا تكفي وحدها ولقد قيل: "النيات الحسنة لا تصلح المنهج العاطل".
ولذا نجد البعض يفني عمره وجهده في الاستحضار والتبرير لأخطاء ماضية متناسيا بشرية أصحابها وإمكانية أن يصدر منهم الخطأ والصواب، أو الإغراق في وهم ساذج مدعيا أنه المخلص لنا مما نحن فيه، ونسي الحاضر ومايلزمه تجاهه واكتفى بانتظار "الخلافة القادمة والمهدي المنتظر" وغير ذلك من الأحداث القادمة التي أغرق البعض في انتظارها، بل وأصيب بحالة من الركون والركود عن بذل الأسباب واتخاذ الوسائل التي هيئها الله، ويجتهد في البحث عن تهييء قادم وهبة ربانية نخر لها سجدا، وأقصى ما يمكن أن نفعله للحاضر هو الدعاء بتعجيلها أو تأجيلنا حتى تأتي ونحن ما زلنا على قيد الحياة، حتى أصبح على شاكلة المهدي المنتظر والخلافة القادمة، الأمة المنتظرة وصلاح الدين القادم وخالد المخلص، ولا يحدث الواحد منا نفسه أن بإمكانه أن يكون مهدي عصره وصلاح دهره وخالد أمته والخليفة الحاضر مع استشعار أننا في عصر المؤسسات والبناء الجماعي لا الفردي.
إن تجريب المجرب خطأ، وانتهاج نفس الوسائل للوصول إلى نفس الأهداف مرة ومرتين وأكثر مع إعادة إنتاج نفس الأخطاء بلا اعتبار ولا اتعاظ جريمة لا تغتفر، والعجب أننا ندعي بذلك بذل ما في وسعنا واستنفاد كل طاقاتنا، ولو أننا راجعنا الأهداف أولا ثم راجعنا الوسائل هل هي متناسقة مع الأهداف أم لا، مع الشجاعة في التخلص مما يثبت الواقع فشله، لاختصرنا على أنفسنا من الوقت والجهد والمال الشيء الكثير.
لقد أصبنا بحالة من التخدير الكلي أو الجزئي إلا من رحم الله، وساهم الخطاب الإسلامي المعاصر في ترسيخ بعض المفاهيم والظواهر والمظاهر الخاطئة التي تريح الضمير وتخدر الفكر والحركة، مكتفين بما وجدنا عليه آباءنا وكبراءنا، غارقين في الوهم الذي هو أفيون الأمم والشعوب والجماعات والأفراد، ومالم تكن هناك شجاعة حقيقية للتخلص من هذا الوهم القاتل ومحاولة للخروج من حالة التخدير، فإننا سنظل ندور في حلقة وحلقات مفرغة ونكرر في نفس الوقت لف الحبل حول أعناقنا وسنن الله لنا بالمرصاد، وما أجمل قول مارتن لوثر كنج: "لست فقط محاسبا على ما تقول، أنت محاسب أيضا على ما لم تقل، حيث كان لا بد لك أن تقول" ومثل ذلك أنت محاسب على ما لم تفعل، حيث كان لا بد لك أن تفعل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.