السياسة الشرعية لا تقوم على ذكر الأطلال والتباكي على ما فات، فلا تضيعوا بقية حياتكم في البكاء على اللبن المسكوب فإنه لن يفيد، والسياسة الشرعية تقوم على الواقع وتوصيفه |
كذلك استقر لأهل السنة والجماعة في الفقه مذاهب أربعة معروفة يأخذون الفقه عنها، فمن أراد الرد في مباحث الفقه الخلافية والتي تؤثر على مجموع الأمة فإنّه يسعه ما استقرت عليه تلك المدارس المؤصلة يسعه ما وسعها من الاتفاق أو الاختلاف بغير تبديع ولا تفسيق، أما خاصة نفس المسلم فله أن يتعبد بغير تلك المذاهب ولكن مجموع الأمة له مرجعية فقهية واحدة يتم الحفاظ عليها. ومن أراد التزكية والأخلاق فإن الله تعالى أكرم الأمة بمدارس معروفة في التصوف الحق يبلغ بها المسلم أعلى منازل الإحسان.
فمن أراد الرد في مباحث التزكية فإنّه يسعه ما وسعها من الاتفاق أو الاختلاف بغير تبديع ولا تفسيق تلك هي المرجعية العلمية الصحيحة التي تلقاها علماء أهل السنّة والجماعة على مر عصور الإسلام بالقبول والرضا وهم عدول هذه الأمة، ولا يجمعهم الله تعالى على خطأ لأنّهم شهداء الله تعالى في أرضه وعلى خلقه فما رأوه حسنا فهو عند الله تعالى حسن، وقد اجتمعت كلمتهم على تلقي علوم تلك المذاهب العلمية بالقبول وهي ليست مذاهب سطحية حتى يتيسر لآحاد العلماء أن ينتقدها لأنّها عصارة تخصص الآلاف من علماء الأمة وفقهائها في شتى علوم الدين وهم أعلم بمجال تخصصهم وقد قال تعالى "وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ" وقال تعالى "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ".
وثاني تلك الإرشادات تجديد طلب العلوم الإسلامية الغائبة عنهم، والتي أدى غيابها إلى وجود بعض الخلل العلمي والعملي، وأهم تلك العلوم علم التقديس للقضاء على فوضى الحشو والتجسيم، وعلم الإيمان للقضاء على فوضى الغلو في التكفير في أوساط المسلمين، وعلم التوحيد للقضاء على جانب الغلو في التوحيد واتهام الأمة بالوقوع في الشرك في أعمال لا تبلغ الشرك وقد تكون مسائل خلافية فقهية بابها الفقه وليس العقيدة، وعلم الاتباع وذلك لضبط مسائل السنة والبدعة على منهاج أهل السنّة والقضاء على فوضى الغلو في التبديع، وعلم الانتساب إلى الجماعة الناجية وذلك لجمع شتات المسلمين تحت راية عريضة واحدة ومنهاج صحيح واسع واحد يمثل الوسطية والاعتدال ويمثل محور التراحم لبقية الفرق الإسلامية حيث لا تكفير لأحد من المسلمين.
وهذا المنهج هو منهاج أهل السنّة والجماعة وهو ولا شك يغاير المنهج الوهابي الذي أوغل في التكفير والتبديع وسوء الظن بالمسلمين كافة وبالفرق الإسلامية عامة وعلم السياسة الشرعية الإسلامية وبيان قواعد الإسلام الرصينة في تنظيم العلاقة بين الحاكم والرعية وتجديد أخلاق أهل الإسلام مع أولي الأمر منهم من السمع والطاعة والاحترام في إطار المعروف حتى يتفرغ الحاكم والعالم والداعية كلٌّ لأداء مهامه بما يوافق شرع الله وبما يؤهل الجميع لخدمة الدين دونما غلو أو تفريط، وعلم الفقه العملي لدين الله وذلك لأن هناك تضخما سرطانيا حاصلا عند الإخوان المسلمين في الجانب السياسي والحركي على سائر الجوانب الأهم والتي تمثل أصول الإسلام وذلك بسبب معطيات خاطئة في هذا الباب

وثالث تلك الإرشادات تبني المنهج الشرعي الصحيح في باب السياسة الشرعية والتعامل مع الأنظمة الحاكمة والخروج من الدائرة المفرغة التي يدورون فيها بسبب عدم تبني الموقف الشرعي الصحيح الحكيم في التعامل مع تلك الأنظمة، فإن معاداة الحكام لا عائد منها سوى الضرر والمفسدة والخراب والدمار والهرج والمرج والوهن والضعف على بلاد المسلمين ولا يستفيد منها سوى أعداء الدين الأصليين من الكفار والمشركين. إنّ السياسة الشرعية لا تقوم على ذكر الأطلال والتباكي على ما فات فلا تضيعوا بقية حياتكم في البكاء على اللبن المسكوب فإنه لن يفيد والسياسة الشرعية تقوم على الواقع وتوصيفه.
ولم يمتنع الفقهاء عن التعامل مع الخلافة العباسية على أساس أنها قامت على أطلال الخلافة الأموية صاحبة الفتوحات، ولم يمتنع الفقهاء عن التعامل مع الخلافة العثمانية على أساس أنها قامت على أطلال دولة المماليك التي هزمت التتار، أبدا لم يحدث مثل ذلك وذلك لأن السياسة الشرعية تعامل الواقع الفعلي. الأمر خطير ولا هزل فيه والتشغيب على حكام الدول الإسلامية اليوم سيؤول إلى اضطراب الأمور ووقوع ما لا تحمد عقباه للجميع، والسياسة الشرعية لا تعرف الحمق ولا الطيش ولا المغامرة بأهل الإسلام، ومصلحة الجميع تقدم على مصالح الطوائف فلا بد من إعادة النظر من جديد في علم السياسة الشرعية وضوابطه الرصينة والبعد عن متشابهات هذا العلم التي لا يتّبعها إلا الذين في قلوبهم زيغ.
لقد تحمل الإخوان ثغر العمل لنصرة الدين فلا ينبغي أن يكونوا ممن يضر بالدين بسبب الجهل الشرعي أو العناد السياسي الذي ثبت بالشرع خطؤه، وثبت بالتجربة ضرره وفشله، والنصيحة الصادقة لهم أن عودوا إلى الثغر الأول ثغر الدعوة إلى الله، والشعوب في أشد الحاجة إلى عودتكم إلى هذا الثغر اتركوا الشغب السياسي وتحلوا بخلق الشجاعة الذاتية في إعادة صياغة المواقف وفق الفهم السديد للشرع والواقع ووفق الفهم السديد للمستجدات حتى تكونوا من أقرب العاملين إلى خدمة الإسلام وأهل الإسلام، هذه النصيحة لله وإن أريد إلا الإصلاح ما استطعت. وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه، والله المستعان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.