لم أتخيل أن يأتي اليوم الذي تكره فيه الشعوب العربية استفاقة من خرجوا وثاروا على الظلم والفساد وطالبوا بالحرية والديمقراطية وقاموا بثورات هزت العالم أجمع، بداية من دولة تونس الشقيقة مرورا بمصر، ليبيا، اليمن، وسوريا. لم أتخيل يوما أن تكون حياة المواطن المستقر هي كل ما يهمه ويشغله بعد انبهاره وإيمانه الشديد بفكرة التغيير وبمبدأ الديمقراطية وبحرية الشعوب وحقها في تقرير مصيرها. لم أتخيل يوما أن أشاهد أناسا يشعرون بهذا الكم من اليأس وفقدان الأمل في التغيير وفي حياة عادلة يسودها الأمن والأمان، وفي حياة آدمية يتمتعون فيها بكامل حقوقهم، لم أتخيل يوما أن يتمنى البعض وهم كثيرون العيش طوال العمر حياة المواطن المستقر.. نعم ذلك المواطن الذي تحدث عنه المفكر الفرنسي إتيان دولابواسييه في كتابه "العبودية الاختيارية"، حيث الاهتمام والانشغال بثلاثة أشياء فقط في الحياة وهي: الدين، لقمة العيش، كرة القدم.
مع كل عام جديد يمر علينا، تأتي ذكرى ثورات الربيع العربي، ومع كل عام يمضي نكتشف الحقيقة؛ حقيقة مشاعر كثيرين في عالمنا العربي يعتقدون أن هذه الثورات ما هي إلا انقلابات عليهم شخصيا وعلى حياتهم التي اعتادوا عليها، بمعنى أصح انقلاب على المواطن المستقر، نعم المواطن المستقر الذي يعيش في عالم خاص به، وتنحصر اهتماماته في ثلاثة أشياء فقط كما قال دولابواسييه:
الدين الذي يمثل له أداء للطقوس واستيفاء للشكل لا ينصرف غالبا للسلوك، كما أنه لا يدافع عن دينه إلا إذا تأكد أنه لن يصيبه أذى.
العيش هو الركن الثاني لحياة المواطن المستقر؛ فهو لا يعبأ إطلاقا بحقوقه السياسية، لكنه يعمل فقط من أجل تربية أطفاله حتى يكبروا فيزوج البنات ويحصل على عقود عمل لأولاده في الخليج ثم يحج إلى بيت الله استعدادا لحسن الختام.
المواطن المستقر يجد في كرة القدم تعويضا له عن أشياء يحرم منها في حياته اليومية، فهي تنسيه همومه وتحقق له العدالة التي حرم منها، لأنها خلال 90 دقيقة تخضع لقواعد واضحة عادلة تطبق علي الجميع.

ورغم أن المواطن المستقر هو العائق الحقيقي ولن يتحقق التغيير إلا عندما يخرج من عالمه الضيق، إلا أن هناك شريحة كبيرة تمنت أن يبقى الوضع على ما هو عليه في جميع الدول العربية التي قامت بها ثورات، أن يظلوا في حياتهم المستقرة رغم الفساد، الظلم، الجشع، انعدام الضمير، وغيرها. خاصة بعدما سقطت أقنعة الكثيرين من مشاهير العالم العربي سواء في مجال الإعلام أو الفن عموما، فشاهدنا إعلاميين كنا نثق في برامجهم وفي آرائهم يتغيرون ويسقطون أمام أعيننا، هذا غير بعض الفنانين الذين كانوا قدوة لشباب كثيرين في يوم من الأيام آمنوا بما يقدموه، وبما تحمله أعمالهم من رسائل تحمل أهداف ومعاني نبيلة، رأيناهم يبدون آراء منافية تماما للقيم التي كانوا يقدمونها في أعمالهم، لدرجة جعلتنا نعي أنهم جميعهم عرائس ماريونت في أيدي أصحاب السلطة والنفوذ إلا من رحم ربي.
أعلم أن وجهة نظر هذة الشريحة يائسة بائسة فاقدة للأمل، لكن للأسف نحن في عصر السرعة، ويبدوا أن أنفاس هذه الفئة قصيرة وغير مستعدة للانتظار ولجني ثمار ونتائج ثورات راح ضحيتها آلاف البشر، ودمرت بسببها العديد من الدول، واكتشفنا بسببها كما مهولا من الفساد والتضليل والكذب، على الرغم من أن الثورات تجنى ثمارها وتتحقق نتائجها بعد سنوات طويلة ربما تصل لعقود من الزمن، والثورة الفرنسية أكبر دليل على ذلك.
هناك شريحة تسير حسب ميول وأهواء أصحاب الجاه والسلطة والنفوذ، حيث المصالح والاستفادة المشتركة، وهذه الفئة تعيش بمبدأ مصلحتك أولا |
لكن للأسف، مع مرور الوقت حيث الحراك الثوري القائم ما بين الحين والآخر، يموت آخرون ويحبس ويعتقل ويقتل ويستشهد آخرون غيرهم على أمل التغيير والإصلاح وعيش حياة آدمية كريمة في بلد يسودها العدل والحرية، وتؤمن بالديمقراطية، وتطبق المساواة بين أفراد شعبها، وتهيئ لهم المناخ الآمن للعيش في سلام دون خوف أو رهبة من أي شخص، وهذه الفئة قصيرة النفس، يبدو أنها غير مستعدة أيضا لاستكمال ما تبقى من عمرها على الأمل، وعلى نجاح ثورة لم تكن ضدها من الأساس من حيث الفكرة، لكن كانت ضد نتائجها السلبية عليهم، حيث انقسام المجتمع ما بين مؤيد وطني ومعارض خائن للوطن، في لهجة جديدة على مجتمعاتنا العربية، هذا غير الأهم وهو؛ الدمار، القتل، الخوف الذي لحق بها، أي عدم الاستقرار في حياتها الطبيعية، فقررت عدم انتظار هذا الأمل في محاولة لاستعادة حياتها بمفهوم حياة المواطن المستقر.
ورغم أن أفراد هذه الشريحة يجدون أن الربيع العربي ما هو إلا انقلاب على حياتهم، هناك فئة أخرى يرى أفرادها في الصمود والانتظار والتضحية بعمرهم السبيل من أجل استكمال انتفاضتهم وثوراتهم التي شاركوا فيها وضحوا بأرواحهم وبأغلى ما لديهم، غير واضعين في الاعتبار الفترة الزمنية التي قد تطول، على اقتناع كامل أنهم إن لم يعاصروا نتائج هذه الثورة ويحتفلوا بنجاحها، فحتما سيحتفل بها وسيجني ثمارها أحفادهم وربما أحفاد الأحفاد يوما من الأيام، وسيظل ذكراهم مفخرة لهؤلاء الأحفاد من وجهة نظرهم، حيث التضحية والموت من أجل أهداف ومبادئ في الحياة عاشوا وماتوا من أجلها.
وهناك فئة أو شريحة أخرى تسير حسب ميول وأهواء أصحاب الجاه والسلطة والنفوذ، حيث المصالح والاستفادة المشتركة، وضمان حياة كريمة آدمية ينعمون بها شريطة تنفيذ الأوامر والسمع والطاعة فقط، وهذه الفئة تعيش بمبدأ مصلحتك أولا.
وفي الحقيقة، لا أستطيع محاسبة أي فئة أو شريحة من هؤلاء على رأيها، فكل فئة لها مبرراتها وقناعاتها الشخصية التي هي نتاج ما تربوا ونشؤوا عليه، فهناك رب واحد شاهد عليهم وهو وحده من له الحق في الحساب، حيث يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: "وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ" البقرة. وفي سورة يونس، يقول الله تعالى: "ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ". وفي سورة النحل، يقول الله تعالى: "تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ".
وأخيرا، أختم بآية كريمة من سورة الرعد تقول: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ". نسأل الله تعالى أن يهدينا لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا قادرين على مجاهدة أنفسنا وسط مغريات الدنيا، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.