شعار قسم مدونات

على هامش فضفضة

Blogs- man
مازلت أذكر حديثهم لي ذات يوم، وكلامهم الذي لطالما استهزأت به، كنت طفلة لا أدرك شيئا من الحياة سوى لعبتين في اليد وحفنة فضول وأحلام، قالوا ذات يوم: العمر ومضة عين، ما بين رمشة وأخرى سنين تعبر ولا نشعر  وما بين شهيق وزفير نكسب ونخسر. ومازلت أذكر ردي ذاته واستهزائي ذاته: ها قد أغمضت عيني وفتحتها وأنتم هنا وأنا مازلت هنا، فأي سنين هذه التي عبرت برمشة عين؟ 
 
مازلت أذكر ذلك الطفل الذي كنته يوما، نقيا نقاء الزهر، صافيا صفو المطر، وبعقل يتغذى كل يوم حد التخمة بفضول لا ينضب ولا يفتر.. مازلت أذكر كل تلك التفاصيل الدقيقة، وكأنها محفورة في الذاكرة، تفاصيل مقيمة في باطننا لا تبرح، من صورة اجتماع كل منا حول مركز واحد، هدف واحد وحفرة واحدة، محملين بتلك الكرات الزجاجية الملونة، حريصين كل الحرص على الحفاظ على ثروتنا منها إما بالثبات أو الزيادة. لأنتقل إلى صورة تلك البيوت والأطعمة وقوالب الحلوى المميزة، التي وبلا أي شك جميعها صنعت من تراب معجون بالقليل من الماء، وبالطبع زينت ببعض فتات الحجارة لتضفي عليها وأخيرا لمساتك بالتصميم والعمارة.
 
مازالت بساطة حياتنا تلك حاضرة في الأذهان حيث كان لكل شيء طعم، نفرح بعمق ونحزن بعمق، نشعر بقيمة الاغتراب والغربة، وبالتأكيد نقدر قيمة كل لحظة، حيث كان الشوق يُشفى بلقاء وزيارة لا بمكالمة أو رسالة، وحيث كان الحب صادقا بعيدا كل البعد عن الارتجال و "المماثلة". مازلت أذكر شاشة التلفاز القديم التي لا تكاد تحوي أكثر من ثلاث قنوات فضائية، في الليل صمتٌ وأخبار التاسعة، وفي النهار دموع تذرف على سالي والعم فيتاليس، وحماس يُشعل لهيبه لمباراة الكابتن ماجد وأهدافه الساحرة.
  
أكتب هذا وأنا في مقتبل العشرين، أي اقتربت من إتمام عقدين من العمر، ذلك الطفل لم يعد موجودا بعد أن طبعت الحياة يوما بعد يوم قبلاتها الصفراء على روحه، وبعد أن أضاع نصف براءته على مفترقات طريق العمر، وأضاع تماما كل فضوله ودهشته، وذلك النقاء والصفاء الذي ذكرته آنفا، آخذ بالنقصان، فبعد كل خيبة صديق، كانت الحياة تقضم بعضا من نقاء الروح، وبعد كل مكر غريب تراها تشرب شيئا فشيئا من جدول صفاء القلب. أوَليست الحياة تأكلنا من الداخل كل يوم ونحن لا نشعر؟ وكأن لاشيء بقي من كَرْمِ هذه الروح سوى بضعة أشجار والكثير الكثير من الحطب. أكتب هذا وأنا الآن متيقنة كل اليقين، أن العمر رمشة عين، وأن الذي كنت دوما أظنه بعيدا، أراه اليوم قريبا، وأن السنين تمر بنا ونحن لا نشعر، وأن الوقت كفيل بتربيتنا وتعليمنا وكشف غطاء الجهل كله عن أغشية عيوننا.
 

تفريق بعد تفريق، خذلان يليه فقد، لتدرك أخيرا أن كل متعلق  بغير الله مخذول، وأن كل يوم يعبر بلا خير منك هو يوم آخر ضائع من عمرك
تفريق بعد تفريق، خذلان يليه فقد، لتدرك أخيرا أن كل متعلق  بغير الله مخذول، وأن كل يوم يعبر بلا خير منك هو يوم آخر ضائع من عمرك
 

لم يكتف الزمن بتغييرنا بل جار أيضا على أسلوب حياتنا، فكان من مصير هذا الجيل أن يحيا فترتين مختلفتين تماما، فترة طفولته المليئة بالطفولة وفترة بلوغه المليئة بكل شيء إلا الطفولة، فلا هو عاد بالطفل ولا أطفال هذه الفترة بالأطفال، كان من مصيره أن يحيا عصر الأتربة والحجارة وعصر "التفاحة المقضومة"، كما كان من مصيره أن يحيا عصر الراحة والسلام، وعصر الثورات وانعدام الأمان.

  
كل يوم يدرك هذا الجيل كم خسر منذ انجرافه بعالم التقنيات والتكنولوجيا، كل يوم يشعر أنه هو "الثمن" الوحيد الذي يدفعه عند استخدامه الشبكة "المجانية"، هذا الجيل ضحى ومازال يضحي بخصوصيته ووقته، هذا الجيل مدرك أن روحه تكره وجودها هنا في عالم التواصل الأزرق، لكنه مازال هنا، فهو ببساطة يجري خلف سراب من السعادة ، ظانا أن ودّ الحياة سيكون له من خلف شاشة. جيلنا رغم إرثه الطفولي العظيم بات جيل السرعة، بوجباته السريعة وهواتفه الأسرع، بحزنه السريع وسعادته الأسرع. هذا الجيل بات جيل السرعة رغم بطئه.
 
لا أدري إلى أين نتجه بهذا النزق؟ ولا أدري كم سنخسر أيضا من أرواحنا في كل يوم وليد؟! ولا أدري كم تبقى من الوقت لنضيعه خلف الشاشات؟! لكني مدركة أن كل دقيقة يفترض أن تكون هبة لنا، فالوقت الذي تشير إليه ساعتك الفارهة أثمن منها، والوقت الذي مضى بلا حُلم هو وقت ضائع، وأن من الغباء أن تواجه وقتك القادم بالطريقة ذاتها. كن متيقنا أنك ستخسر الكثير من الرفاق وستكسب الكثير، ستأخذ الحياة بقسوتها منك الأقرب وستُبعد الأوفى، وأنك ستتغير وتبقى سنة الحياة ثابتة هي هي لا تتغير.
 
تفريق بعد تفريق، خذلان يليه فقد، لتدرك أخيرا أن كل متعلق بغير الله مخذول، وأن كل يوم يعبر بلا خير منك هو يوم آخر ضائع من عمرك. والأهم من ذلك كله أن تكون متأكدا من أنك في كل يوم تقترب أكثر وأكثر من الموت، وأنه ليس من المفترض أن "يعلكك" عزرائيل علكا كل يوم لتظن أن الموت قريب، لأن المنية هي الرفيق الدائم الوحيد لك أينما ذهبت وأينما اتجهت، وأنها فقط، تنتظر اللحظة المناسبة لتأخذك معها. فمن يدري يا صديقي كم من روح قد علت لله الآن في هذه الدقيقة بل في هذه الثانية وهي كانت تظن أن في العمر مزيدا من ومضات العين تلك، فرمشت رمشتها الأخيرة واستقرت، موقفة باستقرارها عداد العمر القصير؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.