
الواقع أيضا أن هذه الزيارات المتكررة لهذه المدينة الفريدة، جعلتني قادرا على متابعة ما يحدث في تركيا عموما وإسطنبول خصوصا، وبالذات على المستوى الاجتماعي والعمراني والتخطيطي. دعوني أشرككم في عشر ملاحظات فقط دونتها في آخر زيارة للمدينة، والتي انتهت فقط من أيام قليلة:
أولا: مستوى النظافة أصبح ملحوظا بطريقة جلية؛ لا يمكن أن تكون مدينة بهذه الكثافة البشرية والبنائية وتملك إرادة التحول في سنوات معدودة إلى مدينة ملفتة في نظافتها، هذه النظافة موثقة بوضوح حتى في الأسواق والشوارع التجارية والساحات العامة، وهو أمر ملفت أن تتحول حالة الشعب من الاهتمام بالخاص إلى الاهتمام بالعام.
ثانيا: شبكة النقل العام المتكامل التي تغطي المدينة أصبحت مذهلة الكفاءة وتتنوع بين المترو والترام والأوتوبيسات والأتوبيسات السريعة ووصولا إلى العبارات المائية. ويكفي أنني أمضيت عشرة أيام في إسطنبول؛ زرت العديد من أماكنها وأحيائها، دون أن أركب تاكسي واحد بما في ذلك من وإلى المطار. هذا التطور في الاعتماد على النقل العام المترابط والذكي أصبح معيارا رئيسيا في تصنيف المدن وتطورها وتحضرها.
ثالثا: يلحظ المراقب للفضاءات والخدمات العامة في المدينة حالة انتماء المجتمع لبلدهم ووعيهم الشديد وبصورة مبهرة. مثلا لاحظت كيفية وقوف الناس أمام أبواب المترو واتباعهم الإرشادات الخاصة بالوقوف على الجوانب للسماح لمن هم داخل المترو بالخروج من المنتصف. كنت أراقب في كل محطات المترو وأجد المعظم الأكبر من الناس شديد الالتزام.
رابعا: النظافة العامة لأفراد الشعب التركي ومظهرهم وروائحهم مبهرة. أنا هنا لا أتكلم عن صفوة المجتمع وما يسمى الطبقة الراقية، ولكني أتكلم عن تأملي لركاب عربة مترو أو أوتوبيس نقل عام أو موظفين أو بائعين. إذن فكرة الطبقة الراقية امتدت لتشمل الكثير من المواطنين العاديين، نعم فرد الشعب العادي أصبح نظيفا أنيقا، ومساهما في رسم صورة متحضرة عن مدينته وبلده.

خامسا: بكل ما تشهده المدينة من حيوية، فإنني أدعي أنها أصبحت مدينة مستواها من الضوضاء محدود، بل وإنني وفي أماكن عامة كثيرة كنت أندهش من قلة المستوى الصوتي على الرغم من كثافة البشر. مستوى جديد من التحضر يكتسبه الأتراك ويميز المدينة.
سابعا: تعدد مشروعات صيانة وترميم وإعادة استخدام المباني التراثية ودمجها بصورة فاعلة في حياة المجتمع وكذلك حياة السائح إدراكا لقيمة هذا التراث ومساهمته في تكوين سردية حضارية وثقافية مستدامة عن المدينة.
المعيار الحقيقي هو ماذا يحدث على الأرض ويؤثر على حياة المواطن ويغيره ماديا ومعنويا وأخلاقيا وتنمويا ووطنيا |
ثامنا: كل العاملين في القطاع الخدمي والأمني يرتدون ملابس متناسقة نظيفة، ومنهم رجال الأمن وعمال النظافة ورجال المطافئ وأمن المترو وسائقو الحافلات.
تاسعا: كمّ ما هو مصنوع في تركيا وبصورة ممتازة يثير السعادة، وفي الأسواق العادية والمولات التجارية الحديثة والمناطق الشعبية والمناطق السياحية ترصد قوة وتنافسية المنتج التركي، ليس فقط التراثي الحرفي الفني، ولكن المتجدد المواكب لمتطلبات وتوجهات العصر.
قد تكون ملاحظاتي السابقة شخصية، ولا يحق لي تعميمها ولكني أدعي، وبسبب خبراتي في مجالات التصميم العمراني وتخطيط المدن، أنني مراقب جيد للعلاقات المتعددة والمركبة بين الإنسان والمكان. كما أعتقد أن ما حدث في تركيا في العشر سنوات الأخيرة أنتج مدينة أفضل وأرقى، والأكثر أهمية، إنسانا واعيا وصاحب كرامة ومنتميا ومساهما في مشروعها وصورتها الحضارية، كما أنه فخور ببلده. إذن سردية إسطنبول المعاصرة تجعلني أقول لا يهم أن تحب أردوغان وتكره السيسي أو العكس.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.