في تلك البقعة المسماة "غزة" التي تبلغ مساحتها ما يزيد عن ٣٦٥ كم²، ويسكن فيها أكثر من مليونيّ نسمة، لم يعد مفهوم الحياة كما المعتاد، حياة أشبه بسرطان لا يمكن الشفاء منه، كل شيء يبدو تافها ورديئا، حتى الموت أصبح أمرا عاديا اعتياديا روتينيا، كيف أقنعوكِ يا أم الشهيد أن تزغردي عند استشهاد ابنك؟!! كيف أقنعونا أن الجهاد في سبيل الله لا يكون إلا بالاستشهاد؟!! أليس بر الوالدين وطلب العلم جهادا في سبيل الله أيضا؟!
وسط هذا الموت السريع نسينا كيف نحيا، ودون أن نشعر أحطنا أنفسنا بأسوار حياة يملؤها هوس بتفاصيل تكاد تكون عديمة الأهمية.. "الكابونة" و"شيك الشؤون" و"استلام الراتب كاملا" أولى اهتماماتنا.. أكبر أحلامنا لا يتجاوز ضرورة من ضروريات الحياة الأقل من عادية. أوقات النوم هنا لا تشبه تلك الأوقات في العالم الخارجي، فلا تلقائيا اعتادت أجسامنا على الاستيقاظ في وقت مجيء الكهرباء والنوم في وقت انقطاعها.. أيضا هل تعلمون أني حقا لا أتذكر متى كانت آخر مرة قمتُ فيها برفع مستوى إضاءة الهاتف المحمول إلى الحد الأعلى؟! لكني أتذكر أني أمضيت 5 أشهر كاملة وأنا أدخر مصروفي اليومي في سبيل شراء مزود الطاقة البديل (UBS)..
جامعات أشبه بمشافٍ حكومية أو سجون، في حين من المفترض أن تكون المتنفس الأول في حياة الطالب الجامعي.. الطالب المدرسيّ الموهوب يجد نفسه لا شيء، بالفعل إنه لا شيء! ففي هذه البقعة يا عزيزي المدارس وجدت للتلقين فقط، أيضا ذات المدارس تجد طُلابها يلتزمون بالزي والقوانين المدرسية خوفا من العقاب وليس عن قناعة، في الحقيقة كيف تستطيع إقناع هؤلاء الطلاب بذلك في حين أنهم يعيشون في بلد يفتقر للنظام والقانون؟!.. طالب الثانوية العامة يبدأ عامه الدراسي بكل حماس ليحصد علامات عالية تؤهله للالتحاق بإحدى الجامعات، لكن في منتصف الفصل الأول من العام يسأل نفسه: لماذا أُتعب نفسي؟!
ما المميز في الجامعات طالما أني لن أجد عملا؟! أليس من الأفضل أن أستغل هذا الوقت في البحث عن عمل في الشوارع بدلا من هذه الدراسة التي لن تُعيلني؟! رجل أمضى حياته وهو يُردد "بكرة الوضع بيتغير وبعوض إللي راح عليّ"، لكنه لم يدرك أنه لا وجود لـ"بكرة" الذي ينتظره إلا حينما أدركه الشيب.. من نُطلق عليهم مصطلح "أطفال" لم يعودوا بحاجة لأن يكبروا ليدركوا كم هو قبيح عالمهم! فملامح الطفولة هُنا تولد مُشوهة…

يدور في عقولنا الكثير من الكلمات، لكننا حينما نقرر أن نبوح بها نجد أنفسنا خالين من تلك الكلمات، في الحقيقة الأمر ليس كذلك ولكننا لا نشعر بأي قيمة للبوح، لا نستشعر قيمة لأي شيء، حتى الأكل! نأكل ليس لأننا نشتهي صنفا معينا من الطعام، نأكل لمجرد البقاء على قيد تلك التي يسمونها حياة.. هناك قول بالإنجليزية للكاتب "نورمان كوزنز": "Death is not the greatest loss in life. The greatest loss is what dies inside us while we live" ، أي إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى، الخسارة الأكبر هو ما يموت فينا ونحن أحياء.
فمتى سيحين موعد عرض الحلقة الأخيرة من هذه المأساة وتختفي كل تلك اللعنات؟! ولكن بما أن جميع من في هذه البقعة الأكثر بؤسا ملائكة ولا يخطئون، وكل طرف يسعى لتحميل المسؤولية للطرف الآخر، بتّ أصدق أن السبب وراء ما يحدث هو أننا تجاهلنا تلك الرسالة التي مضمونها "أرسل هذا الدعاء لـ10 أشخاص وإذا لم ترسله ستصيبك مصيبة".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.