نعتقد أن الإجابة عن هذه الأسئلة يتطلب طرح سؤالي الكونية والخصوصية، كما يستلزم بالضرورة طرح أسئلة أخرى مرتبطة بالهوية كتعدد، وبالغيرية كاختلاف، في أبعادهما الأنطلوجية والسيكلوجية والاجتماعية والثقافية والتاريخية الحضارية. ذلك أن الوعي بالذات الفردية والجماعية، لا يعتبر فقط جزءا من هويتهما الثقافية، بل هو مرتبط ارتباطا عضويا بالهوية الإنسانية.
لقد بات من المعلوم أن ظهور الألفية الثالثة قد صاحبه خطاب فوكوياما المكرس لمنطق نهاية التاريخ. ذلك الخطاب الذي ضيق -باسم الكونية- الخناق على كل خصوصية ثقافية؛ مما جعل من الكوني فخا منصوبا يستهدف كل تراث عالمي عميق ويصادر قيمه الإيجابية، لتحل قيم استهلاكية محلها. وسؤال الهوية هذا الذي نبحث فيه، هو مسلك ضروري لكل من يريد أن يتلمس الطريق نحو بناء نسق قيمي إنساني، فهو إن كان لا يقف عند حدود إجابات فلاسفة عصر الأنوار له فإنه -حسب إدغار موران- لا يخرج عن سؤال الأنسنة ليطالب بتحقيق ما هو أرقى وأعظم: إنسانية الإنسان، وذلك عبر تفعيل نوع من المصالحة بين الكوني والخصوصي، في ظل ثقافة إنسانية عالمية مُوَحَّدَةٌ منتجة للتنوع. ذلك أن الكوني يشكل اللحمة الموحدة لثقافات وهويات العالم، كما يعتبر مدبرا لمختلفها ومشتركها في زمن العولمة واقتصاد السوق .
وعليه، يمكن من جانب ثقافتنا العربية الإسلامية -التي تكالبت عليها ويلات ومصائب العولمة الاقتصادية- التفكير في بناء تصور جديد للإنسان العربي المسلم من أجل إرساء هوية عربية إسلامية متحولة، ومنفتحة على قيم الإنسان الكونية، ومتفاعلة مع إستراتيجيات هذه الأخيرة الموضوعة في المشترك الإنساني. فمواصلة نفس النهج المتبع منذ زمان والإبقاء على نفس التصورات القديمة، التي جعلت من الهوية العربية الإسلامية معطى ثابتا لا يتغير مع تغير الزمان والمكان، هو إجراء عقيم لم يعد يجدي أي نفع.
صراع الهويات، يجعل من كل خصوصية مرتعا لاستعلاء تتغذى عليه نزعات الإقصاء والتعصب وإرادات القوة والتحلل القيمي |
إذا بنينا وفق هذا التصور الذات العربية الإسلامية، باعتبارها وحدة كلية، فإنه يستحيل النظر إليها، بأي شكل من الأشكال كمعطى ميتافيزيقي، بل كبناء منفتح على كل الممكنات ومحيل بالتالي على التعدد والكثرة. بناء معبر عن هوية متسمة بطابع تركيب يتحدد داخليا وخارجيا بمستويات أو بالأحرى بمجالات فرعية نفسية، اجتماعية وثقافية.
وقياسا على هذا الافتراض، يمكن القول -وبكل أسف- إن الذات العربية الإسلامية في أيامنا هذه ليست بخير. فقد محت الأزمات تلو الأزمات وجودها كاختلاف، فبدت للقاصي والداني ذاتا بكينونة مذابة في نمط "وجود مشترك" يتحكم فيه غيرها، و هذا ما أفقدها تميزها وفرادتها وخصوصيتها وعمق لديها الإحساس بالدونية والاغتراب، فالعلاقة التي تجمعها بالغرب علاقة تفاضلية تطبعها الغرابة ويغمرها صراع الهويات وإقصاء البعض للبعض .
يبدو صراع الهويات هذا -الذي يملأ مشهدنا الثقافي والسياسي- مثيرا للشفقة وللحزن الشديد، لأنه صراع فارغ لا معنى له، يجعل من كل خصوصية مرتعا لاستعلاء تتغذى عليه نزعات الإقصاء والتعصب وإرادات القوة والتحلل القيمي، استعلاء يزيد في تضييق الآفاق الرحبة الواعدة بالعطاء الإنساني الذي لا ينضب.
إن اتجاه الذات العربية الإسلامية صوب آخرها الغرب يجب أن تحكمه أساسيات ومعقوليات ضابطة لتلك القصدية المفترضة المتبادلة بين كلا الطرفين. فالتفاعل لا يمكن إلا أن يكون عقيما غير منتج لأي تواصل حقيقي، إذا لم يسع إلى خلق مجال "بين-ذاتي" ينتعش فيه كل تواصل ممكن.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.