شعار قسم مدونات

الشتاء

Blogs- winter
حل الشتاءُ السنةَ سريعا باردا كعادته، تحرسه زخات المطر من جانب ورشقات الثلج من جانب، وتحيط به هالة صفراء من التراب يثيرها احتفاء الأرض بقدوم صاحب الصقيع وجليل البرودة، لكنه في حقيقة الحال المجردة من هوى محبي الشوكولاتة الساخنة على الشرفة في الأمسيات المثلجة، وكما أثبتت فيزياء الحرارة وكيمياؤها؛ لص يسلبنا الدفء بكل وقاحة، وينهب منا نهارنا وعلى وجهه ضحكة سافرة.
  
يتسلل من بين نسمات الخريف الهادئة فيختلس بعضا من أيامه مرسلا تحذيراته إلى أولئك البؤساء أن قد نزلت بساحكتم أيها المُنْذَرين، ومبشِّرا محبي الشوكولاتة الساخنة على الشرفة في الأمسيات المثلجة أن قد جاء الحبيب بعد غياب، وأن أعدوا لاستقباله بثقيل الثياب صوفها وكتانها وكثير السجاد وأسمكه، وأولئك العصاة المارقون الذين لن يستعدوا له كما يليق بمقامه الجلي العظيم، فسيسلبهم كل حرارة تزيد عن صفره، بل إنه قد يسلبهم أرواحهم الحانية الدافئة، ولو كان أمر تدوين التاريخ لي لأعلنت بأن من اخترع الصفر هو الشتاء، واستنبطه العرب منه، هو من غرس الصفر في قلوب البشر مذ خُلقوا، هو من يجعل بطنك من الجوع صفرا، وإهابك وما أحاط من البرد صفرا، هو ولا أحد غيره يجعل الفقير يتكور من البرد حتى لتحسب أنه في تكوره قد رسم بجسمه صفرا. 
  
الشتاء فصل الأغنياء المفضل، ولم لا يكون وهم يملكون ضريبته القاسية، لديهم ما يستطيع ذلك اللص سلبه ويزيد، أما أولئك الذين لا يملكون أكثر من أرواحهم التي بين جنبيهم، فمؤكد أنه ليس سوى ابتلاء آخر ينضم كل سنة لمجموع ما تكالب عليهم من ابتلاءات، غير أنه زيادة على بطشه وقسوته؛ يعزز من قسوة ما اجتمع به من ابتلاءات، وي كأنه شيخ منسرهم ورئيس عصابتهم متجمد القلب الذي عاد بعد تغييب ليثأر من كل ضعيف ومسكين فرح بل احتفل برحيله من قبل.
 
لا أدري ما الذي حولني إلى عدو لدود للشتاء بعد أن كنت من محبيه بل من عشّاقه، عرفت الشتاء لما عرفته على أنه ربيع المؤمنين وروضة تموج بالقربات والطاعات والحسنات، فتبعد عن النار سبعين خريفا بصيام لا يتجاوز العشر ساعات بلا عطش ولا تعب أو نصب، ويطول لك فيه الليل حتى لتحسب أنه مُد له من البحر كي يطول أبدا؛ ليل يناديك بعد أن أسكَن كل الخلق بردا لتقطع سكونه بذكر الله قائما وراكعا وساجدا، وإن كان حسبك من العبادة الفروض ولا طاقة لك بالنوافل فقد سهل عليك الشتاء -بما سرق من النهار- الاستيقاظ للفجر، وإن لم تكن من أهله فقد جاء لك به الشتاء وقت استيقاظك للعمل.
  

لست عدوي أيها الفصل
لست عدوي أيها الفصل "الشتاء" المسير بأمر الله مذ خلق الكون، بل إن عدوي هو الظلم الذي جعل يدك التي تنزل على البعض نسمة فاتنة تنزل على البعض صفعة حارقة، وعلى البعض الآخرين موتة قاسية
 

فهو فصل الخير والمداد من الطاعات كما هو فصل الغيث والاستيزاد من المحاصيل والخيرات. لطالما أحببت الشتاء ونفثات البخار البيضاء في الصباح الباكر التي أعدها من معالم طفولتي، والتي لا تزال تسحرني وتحيي في روح ذلك الطفل القديم.

  
وإنه لمن السخرية أني حملت قلمي وجلست أجلد الشتاء بكلماتي بينما أجلس في أتوبيس النقل العام وقد فتحت الشباك على مصراعيه -إن كان له مصراعان- لألتقي بنسمات الهواء الباردة التي أعشق وإن أحسست أن في لطماتها لوم وعتاب من محبوب إلى محبه، إذ كيف تنسى ما كان بيننا من حب مشتعل؟ أم كيف تتركني أنا النسمة فاتنة البرودة فريسة للشوق ذي النار الحارقة؟ هل نسيت خواطرك المحلقة التي استحثها الشتاء ونسماته بينما كنت تمشي على كوبري الجامعة كل يوم عائدا من الكلية؟
ألا تذكر ما تغنيت به قبلا في حبي؟ أم لم تكن أنت؟ ألم أجعل لك من برودتي ربيعا في قلبك حتى لصار النشيد تسمعه بأذن روحك لتحلق معه وسط نسماتي فكنت تقول "ما أعذب صوتك يا أبا راتب وما أشجى كلماتك حينما تداعب رياح الشتاء فاتنة البرودة وجهي على وقعها الرنان "؟ أم لم تكن أنت؟
  
لا، لا أظنني أذكر سوى البرد يقضم أطرافي القطعة فالقطعة حتى أطبق عليّ بين فكي الشتاء القاسيين، فلم تجدني بشيء تلك الخرقة البالية المسماة زورا بطانية أو تلك القمامة المدعية بأنها طعام ، لم أكن وحدي حينها، بل إن فكي الشتاء كانا عظيمين حتى لقد افترسا أكثر من مائة ألف معتقل، ونهبا من بين صدورهم الحانية كل حرارة زادت عن صفرهما مستعينين بالأرض المثلجة القاسية والجدران الباردة الصماء، فصارا سوطا في يد السجان يلهب به صدورهم، ولكن هيهات له كما كان لصعقات الكهرباء وضربات الصياط من قبله، فالفكرة التي تسكن الروح هيهات أن تصل إليها يد غير يد خالقها.
  
لا، تمهلي قليلا أظنني تذكرت، تذكرت خبرا بل نعيا يذيعه الشتاء كل سنة على قناة الجزيرة في فقرة أخبار سوريا عن طيور من الجنة عرجت إلى جنان ربها من مخيم الزعتري، واليرموك، ومخيمات إدلب، ودرعا، وريف حلب، وغوطة دمشق وريفها، وفي فقرة أخبار العراق وأخبار اليمن وفي أحاديث أهل مصر عن فلان المعدم الفقير الذي قضى بردا على الرصيف أسفل الكوبري.
   
لا، لم تعد رياحك تذكرني إلا بتقصيري في الدعاء لإخواني المعتقلين واللاجئين ألَّا يُمَكِنَك الله من أرواحهم أبدا، وأن يجعل لهم من لدنه دفئا ورحمة يكسران فكيك عنهم ويكفان يديك عن صدورهم، ولا تحسب أننا صرنا أعداء، لا، لست عدوي أيها الفصل، أيها المناخ المسير بأمر الله مذ خلق الكون، بل إن عدوي هوالظلم الذي جعل يدك التي تنزل على البعض نسمة فاتنة تنزل على البعض صفعة حارقة، وعلى البعض الآخرين موتة قاسية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.