قالت لي وهي تنظر بحيرة: "لا أعلم إن كان هذا هو الشخص الملائم لي. أعني، كيف سأختار في بداية حياتي الشخص الذي سأعيش معه طوال عمري؟ ماذا لو لم يكن مناسبا؟ هل سيحدد قرار واحد قد أصيب فيه أو أخطئ الشكل الذي ستتخذه حياتي من الآن فصاعدا؟".
لم أكن أعرف بمَ سأجيبها، فقد كنت أشعر بذات الحيرة حيال أي قرار سأتخذه، كبيرا كان أو صغيرا. أخذت حينها تتردد في ذهني عبارة من رواية "كائن لا تُحتمل خفته" لميلان كونديرا، تقول: "الحياة الإنسانية لا تحدث إلا مرة واحدة فقط، ولن يكون في وسعنا أبدا أن نتحقق أي قرار هو الجيد وأي قرار هو السيء، لم تعطَ لنا حياة ثانية أو ثالثة أو رابعة حتى نستطيع أن نقارن بِحيوات سابقة، ولا أن نصلح ما أفسدنا في حيوات لاحقة".
وإن كان الوضع كما وصف كونديرا حقا، فالاختيار يصبح مسؤولية ثقيلة ملقاة على عاتقنا أشبه بإطلاق حكم مؤبد على حياتنا في مرحلة مبكرة منها، دون أن نمتلك أي دليل على مدى صواب هذا القرار. كان الوضع أسهل بعض الشيء في الأزمنة الماضية حيث تطغى العادات والتقاليد والأعراف على الشخص، وتُسيّر هي بنفسها حياته في مضامير محدده كما فعلت مع أقرانه وآبائه وأجداده. لكننا نعيش الآن في عصر أفول المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية وهيمنة الفردانية؛ بحيث يصير للشخص الكلمة الأولى والأخيرة في تشكيل حياته عن طريق اختياراته، ما يصب في ذات النقطة التي تجعل من الاختيار شيئا عسيرا. ولهذا، صرنا نهرب من الاختيارات النهائية ونعيش فيما أحب أن أسميه بـ"عصر الرحالة الحديث".
في عالم لا نهائي من الخيارات، وفي أفق لا حدود له من الاحتمالات، يبدو الاكتفاء بخيار واحد واختزال مدانا الواسع لطريق مُستقيم تضحية فادحة بكل ما كان ممكنا أن تقدمه لنا الحياة |
يعرّف قاموس ميريام ويبستر مصطلح "الرحالة الحديث" بالشخص الذي لا يستقر في بلد واحد لأكثر من ثلاث سنوات. هذا المفهوم بمعناه الضيق بعيد كل البعد عن حياتنا في الشرق التي يقضيها معظمنا في بلد واحد، لكنّي أحب أن أُحرف في التعريف قليلا وأوسع في معناه بعض الشيء ليصير: الشخص الذي لا يستقر في مكان أو وظيفة أو علاقة لأمد طويل.
بهذا التعريف المُوسع، نصير كلنا بشكل أو بآخر رحّالة، تتحكم حالة من السيولة في كل ما يربطنا بالحياة، ننتقل في فترات قصيرة بكثرة بين الأشخاص والعلاقات والمهن، فلو نظرت لحياتك الآن، فمن المحتمل بشكل كبير أنك ستجدها مختلفة تمام الاختلاف عمّا كانت عليه من خمس سنوات مثلا، قد تجد نفسك محاطا بأشخاص مختلفين عن أولئك الذين عرفت فيما مضى، أو قد تجد أنك تعمل بوظيفة مختلفة أو بمكان عمل مُختلف، ومن المحتمل أيضا أنك ستكون مرتبطا بشريك غير ذاك الذي كنت مُقترنا به فيما مضى. وإن كنت واحدا من جيل الألفيين -مواليد الثمانينات والتسعينات- ترتفع احتمالات ذلك كثيرا.
فقد أتاح لنا هذا العصر من الفرص ما يجعل غواية التجربة تجذب إليها أمانينا بعيدا عن ملل الاستقرار. ففي عالم لا نهائي من الخيارات، وفي أفق لا حدود له من الاحتمالات، يبدو الاكتفاء بخيار واحد واختزال مدانا الواسع لطريق مُستقيم تضحية فادحة بكل ما كان ممكنا أن تقدمه لنا الحياة، حيث تأخذ الاحتمالات في التشكل بالفضاء على هيئة خيالات تغرينا بكل الفتنة التي يحملها الممكن المجهول، نظل هكذا نعيش حالة دائمة من الهرب من الخيارات النهائية، ونرتحل بين الحلول المؤقتة التي تقينا خوف الأحكام المؤبدة على حيواتنا، وفي ذات الوقت تمنحنا كل مُتع التجربة.
لكن، وعلى الصعيد الآخر، تُسيطر علينا حالة من عدم الاستقرار، فبهروبنا الدائم من القرارات النهائية، يتهاوى كل ما كان ممكنا أن يُشكل حجر الزاوية بالنسبة إلينا، تتبدى الحياة لنا حينها كمجموعة من التجارب المسلية التي نعايشها بعض الوقت ثم نُلقيها بعيدا بحثا عن متعة أخرى بمكان مختلف، تحول حينها مسافة باردة بيننا وبين كل ما نعيشه.
ربما أفضل من عبّر عن تلك المسافة كان الرسام الأمريكي إدوارد هوبر في لوحاته التي تصور حياة المدينة في القرن العشرين؛ غالبا ما تلتقط لوحاته شخوصها خارج المنزل، في مكان انتقالي كقطار أو شارع أو مقهى، يجلسون وحيدين محاطين بمساحات واسعة تبعث على الضيق أكثر ما تبعث على الرحابة، فيأتي وقوف تلك المساحات كرمز بصري على انفصالهم الوجداني عن كل ما يحيط بهم، وشعورهم الداخلي بالوحدة الذي يترجم نفسه في تلك المساحة البعيدة التي تفصلهم عن أقرب شخص، ولا تقل تلك المساحة في لوحاته المرسومة داخل المنازل، حيث تقف المساحة هنا لتملأ الصمت المُعلّق في الهواء بين أفراد البيت الواحد المنعزلين شعوريا عن بعضهم البعض.

جاءت رسومات هوبر واقعية بشكل مؤلم، تعبّر عن المسافات التي صارت تفصلنا عن بعضنا البعض في العصر الحديث، حيث تتحكم حالة من السرعة مدفوعة بالرغبة في تجربة كل شيء وعدم الارتباط بأي شيء، أصاب ذلك الجو الشعوري البارد هوبر نفسه بالوحدة، فكان يجول شوارع المدينة ليلا كروح هائمة تلتقط مناظر العزلة الحزينة.
ربما نحن هكذا مُعلقون بين المطرقة والسندان، نخاف القرارات النهائية التي ستوثق رباطنا بوضع بعينه، فنُفضل أن نبقى مرتحلين بين التجارب المؤقتة والعلاقات الزائلة التي تقينا مخاطر القرار الخاطئ، لكنها تضن علينا بدفء ما هو مُستقر ودائم، أو ربما نحن أبناء الرأسمالية المُدللون المُعتادون دائما على أن يقف أمامنا عدد لا نهائي من الاختيارات على الرفوف لنقطف من ثمارها كلها، ربما نرتاح أكثر لو اخترنا واقعا واحدا نُعايشه بعُمق، على أن نبقى مُستنفَذين من كل ما هو سطحي وزائف، ربما نعوض أنفسنا حينها عن كل ما فاتنا عبر الفن، ونفعل مثل كونديرا الذي قال في نفس الرواية: "شخصيات روايتي هي إمكاناتي الشخصية التي لم تتحقق". من يعلم؟ ربما ينقذنا الخيال حقا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.