هذه الرؤية التي يحاول البعض أن يصدرها إنما تفتقر إلى النظر العميق لحلم الثورات كفكرة، وكما يقولون "الأفكار لا تموت"، ذلك أن فكرة الثورة هي في قلب عملية التغيير التي تتأكد كسنة ماضية لا تتخلف، ومن هنا فإن تلك الثورات كإحدى أهم الأدوات لعملية التغيير لا يمكن وأدها إلى الأبد أو استبعادها من ميزان التغيير، بل نستطيع أن نقول وبكل صدق إن تلك الثورات قد فتحت بابا واسعا -رغم تمكن الثورات المضادة بأشكال مختلفة- للتمسك بحلم التغيير، وهو أمر لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون معه الأمور كما كانت عليه من قبل، فإن ما تبقى من تلك الثورات أمر لا يمكن قياسه أو التأشير عليه بتلك الحال التي آلت إليها تلك الأوطان التي كانت مسرحا لهذه الثورات.
ومن ثم، من المهم أن نؤكد أن الثورات تمثل في مدار الزمن علامات فارقة وكاشفة بما يمكن أن تحققه من إمكانات واسعة وطاقات متجمعة تجعل من عملية التغيير أملا منشودا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتوارى أو يُغتال في النفوس، ونظن أن عمليات القتل المتعمد والإسراف فيه إنما هي محاولة من كل مستبد أن يقتل معنى الثورة في النفوس، ولكن هذه العمليات من القتل الجماعي لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تئد فكرة الثورة في النفوس، ولا يستطيع هؤلاء أن يفتشوا في ثنايا القلوب أو خفايا الصدور، لأن هذا الأمر الذي يتعلق بثورات الكرامة إنما يشكل طاقات الرفض والاحتجاج حتى لو كانت كامنة، وحتى لو نصب هؤلاء ما يمكن تسميته جدران الخوف والتخويف بكل ما لديهم من طاقة، حتى إن هؤلاء لم يعودوا يحسنون من مشروعات إلا أن يقوموا ببناء سجون جديدة، وكأن هؤلاء لن يرتاحوا إلا إذا هجّروا كل الناس تهجيرا قسريا أو اعتقلوهم كافة أو قتلوهم جميعا أو وضعوهم تحت مقصلة الإعدام، هكذا يتصرف هؤلاء، ولكن الثورات كفكرة حية ناهضة في النفوس لا يمكن أن تموت عند كل إنسان يبحث عن الكرامة والحرية وعن العدل والعيش الكريم.

المستبد ولسان حاله يبرر وضع بلاده "حتى لا نكون مثل.." وكأن هؤلاء يحذروننا من مصير هم صانعوه ومن خراب هم فاعلوه ومن تقسيم وانقسام هم من شكلوه |
ولكن الأمر في واقعه وفي تطوره لن يسير في هذا الطريق الذي ينفقون فيه الأموال ويخوضون الحروب ويزكون اقتتال الأهلي ويمولون الانقلابات العسكرية، نقول إن كل ذلك إنما يعبر عن ضعف هذه الثورات أمام المجتمعات، فيحاولون تفكيكها وهدمها، فالشعوب لا تطالب إلا بمطالب يسيرة من كرامة وحرية وعدالة، إلا إن هؤلاء يستكثرون على تلك الشعوب أن تريد أو تغير أو تطالب، هذه هي القضية التي تتعلق بالثورات بما يؤكد أن الثورة ليست جولة وأن الملحمة الثورية ستستمر ولو بدت أنها تتوارى، ولو بدا للثورات المضادة وزبانيتها علامات انتصار هنا أو هناك.
إن معركة النفس الطويل تتأكد من قلب هذه المحنة التي تحيط بالثورات العربية وثورة يناير على وجه الخصوص، ولكن هذه المحنة تفرض على كل هؤلاء الذين يحلمون بالثورة ويقومون على هذا الأمل في التغيير ويتوقون إلى أشواق الحرية والكرامة أن يستعدوا لمعركة النفس الطويل ومعركة التغيير القائمة والقادمة، معركة النفس الطويل تعني أن نمكن لكل هذه الخمائر التي تشكل حالة وعي بالموقف وحالة وعي جمعي ممتد ومتراكم، إن معركة الوعي تعني ضمن ما تعني أن نؤكد لكل هؤلاء أن ما آلت إليه الأمور لم يكن بأي حال من الأحوال بسبب تلك الثورات، ولكنه بسبب الاستبداد الذي فقد عقله حينما هبت نسائم التغيير ووقعت الثورات، إن هؤلاء يقومون بتلك المجازر وتلك التهجيرات في محاولة منهم لإلصاق كل مسبة بتلك الثورات.
حتى إن المستبد ولسان حاله يبرر وضع بلاده "حتى لا نكون مثل.."، وكأن هؤلاء يحذروننا من مصير هم صانعوه ومن خراب هم فاعلوه ومن تقسيم وانقسام هم من شكلوه، بل إنهم يقومون بكل عمل يشكل التفريط في الأوطان والتنازل عن الموارد والتفريط في كل شيء حتى يرضوا أسيادهم ويرضى عنهم الكيان الصهيوني، فإنهم في واقع الأمر ليسوا فقط بعملاء الخيانة فحسب، ولكنهم من صنف الطغاة الذين يجلبون الغزاة مرة أخرى إلى أراضينا، ويأتون بالاستعمار على أشكال مختلفة، بل إنهم يتعاملون مع مواطنيهم بمنطق الاحتلال والقهر، يجلون البعض من أراضيهم ويهجرونهم تهجيرا قسريا ويقتلون أو يعتقلون كل من احتج أو طالب بالتغيير، فكوّن هؤلاء شبكة من الغصب والظلم. آن الأوان وقد وصلت الأوطان إلى هذه الحال أن نعد العدة لاستئناف ثورة جديدة، فإن ما تبقى من ثوراتنا ليس بالأمر اليسير، وإن ما تبقى لنا من عمل كثير يجب أن نقوم به وعليه في معركة النفس الطويل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.