شعار قسم مدونات

اللغة تكشف زيف الروايات (1)

blogs - قرآن

برغم العناية الكبيرة التي أولاها نقاد الروايات التاريخية المسلمون لتصحيح الروايات المنسوبة إلى النبي محمد عليه السلام وجيل المؤمنين الأوائل برسالته، إلا أن الخرق كان قد اتسع على الراقع، وأصبح من العسير عليهم التحقق مما نسب إلى قائليه، لضخامة ما أنتجه الكذابون من روايات.

 

ولهذا اتفق نقاد الحديث على القول بأن ما وُصف من هذه الروايات بالصحيح لا يعني أنه مقطوع به يقيناً، فالحديث الصحيح عندهم هو ذلك الذي توفرت فيه شروط النقاد الخمسة من: اتصال السند، وعدالة الرواة، وضبطهم، وخلوه من العلة، والشذوذ. إلا أن توفر هذه الشروط في الرواية، كما يقولون، لا يضمن صحتها يقيناً، فهي ظنية الثبوت بهذا المعنى.

وإذا ما تعاملنا مع هذه الروايات بوصفها نصوصاً تاريخية، وهي كذلك بدليل أن نقاد الحديث أنفسهم أخضعوها للنقد والتصحيح. والوحي ينبغي أن يكون مُنَزَّها عن النقد والتصحيح، فبإمكاننا القول إن نقاد الحديث المتقدمين قد أبلوا بلاء حسناً في نقد هذه الروايات. إلا أن جهدهم ظل قاصراً لقصور معارفهم ومناهجهم العلمية. ولا يشك في هذا القصور إلا مغفل يريد القول إن حركة العلم والمعرفة تتجه من الكمال إلى النقص بمرور الزمن. وهو كلام يثير السخرية ولا يثير العقل.

 

"لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ" هذه الآية لا تنهى عن مس المصحف، ولا تشير إليه بمنطوقها، وإنما تخبر عن صفة للقرآن. فهو قرآن كريم، محفوظ في كتاب سماوي مكنون

وهذا تاريخ العلوم بين أيدينا لمن شاء أن يتأكد بنفسه من بلاهة هذه الدعوى. ويكفي أن نلقي نظرة مقارنة سريعة على حجم المعرفة اللغوية ومستواها بين القرنين الثالث والخامس عشر الهجريين. فضلا عن ظهور علوم جديدة لم تكن معروفة عند علماء السلف، كعلم الآثار، وعلم الأديان المقارن، وعلم التاريخ نفسه، وغيرها من العلوم والمكتشفات والمناهج التي تسهم في إثراء العملية النقدية للروايات التاريخية كمّا وكيفا.

ومن الأمور الشيقة لدارس اللغة الحديث، إخضاع النصوص التاريخية للفحص المخبري اللغوي، لأنه سيجد الكثير من المفاجآت غير المتوقعة، سنضرب لها بعض الأمثلة في هذه التدوينة بجزئيها. بعض هذه الأمثلة له صلة بالمعاني المتعلقة بقواعد النحو، وبعضها له علاقة بالدلالة المعجمية للفظة، وبعضها الأخير له علاقة بالدلالة التاريخية. وهي مجرد عينات تمثيلية لها أشباه كثيرة لا مجال لذكرها في هذه المساحة المحدودة. نبدأها بهذا المثل الشرود:

شاع بين المسلمين عدم جواز مس المصحف إلا لمن كان طاهراً متوضئاً، وقيل إن جمهور الفقهاء على هذا الرأي، وكان دليل الجمهور على هذا الحكم هو فهمهم لآية الواقعة: "لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ".. والعجيب في هذا الفهم أنه يتجاهل معنى الآية الصريح، وينزل عند الدلالة التاريخية التي انحرفت بها. وبدلا من جعل القرآن قاضياً ومهيمناً على روايات التاريخ فعلوا العكس؛ فالآية لا تنهى عن مس المصحف، ولا تشير إليه بمنطوقها، وإنما تخبر، كما يقول جمهور المفسرين، عن صفة للقرآن. فهو قرآن كريم، محفوظ في كتاب سماوي مكنون، لا يمس هذا الكتاب إلا الملائكة المطهرون، وهو ما نص عليه القرآن في آية أخرى من سورة عبس: "كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ." 

والمفسرون متفقون على أن المقصود بالكرام البررة الملائكة. والقاعدة النحوية المتفق عليها تقول إن الفعل المضارع المرفوع بعد "لا" يدل على أنها نافية لا ناهية. وفعل "يمسُ" في الآية مرفوع. ومن ثم فالجملة حسب منطوقها خبرية لا طلبية. ولا قرينة كافية تدل على أن الخبر فيها يفيد الطلب. فلماذا إذن ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بوجوب الطهارة عند مس المصحف؟!

 

الجواب هو أن الفقهاء تجاهلوا دلالة الآية وتوقفوا عند دلالة النصوص التاريخية التي تفيد بأن الآثار قد دلت على أن الصحابة والنبي كانوا يطلبون ذلك. وهذا ما قاله صاحب تفسير "التحرير والتنوير" على الرغم من قوله: فَهَذِهِ الْآيَةُ لَيْسَتْ دَلِيلًا لِحُكْمِ مَسِّ الْقُرْآنِ بِأَيِدِي النَّاسِ وَلَكِنْ ذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاهَا لَا يَخْلُو مِنْ إِرَادَةِ أَنْ يُقَاسَ النَّاسُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فِي أَنَّهُمْ لَا يَمَسُّونَ الْقُرْآنَ إِلَّا إِذَا كَانُوا طَاهِرَيْنَ كَالْمَلَائِكَةِ، أَيْ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ مِنْ طَهَارَةِ الْآدَمِيِّينَ. أهـ. 

undefined

وهذا كلام لا صلة له بمنطق العلم، فبأي حجة يقاس الناس على الملائكة؟! وكيف يقول المفسر ذلك وهو نفسه قد قال قبلها بقليل إن المراد بالطهارة في الآية: الطَّهَارَةُ النَّفْسَانِيَّةُ وَهِيَ الزَّكَاءُ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. أهـ. فما علاقة الطهارة النفسية للملائكة بالطهارة الحسية للبشر؟

وبسقوط هذا التأويل المنحرف، والمنهج التأويلي الأكثر انحرافاً، تعود الآية إلى مكانتها الطبيعية في موقع الهيمنة على الروايات التاريخية. وبالاستناد عليها يمكننا، مثلا، التشكيك في تلك الرواية التي تقول إن فاطمة شقيقة عمر بن الخطاب قد رفضت أن يمس عمر، قبل إسلامه، صحيفة من القرآن في بيتها حتى يتوضأ. فابنة الخطاب عربية تعرف الفرق بين النهي والنفي، ولن يمنعها قياس ظني بعيد كهذا من الطمع في إيمان أخيها بمناولته الصحيفة!

قد يكون للقصة أصل حقيقي بالطبع، لكنه ليس هذه الرواية، بل رواية أخرى تذكر الحادثة نفسها خالية من ذكر الصحيفة وشرط الطهارة، وتذكر سورة العلق بدلا من سورة طه، وسورة العلق أسبق نزولا من سورة طه، كما أن سورة الواقعة التي تتضمن آية "لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرون" قد نزلت بعد سورة طه. والأرجح أن فاطمة آنذاك كانت تقرأ آخر ما نزل من السور، بل إن الواحدي في كتاب "أسباب النزول" يذكر ما يدل على أن سورة الواقعة قد نزلت بعد إسلام عمر بمدة، كما تدل رواية عروة بن رويم في سبب نزول قوله تعالى من سورة الواقعة: "ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ". والحوار الذي دار بين عمر والنبي عند نزولها، وهي الآية التي تسبق "لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ" بعشرات الآيات! وللموضوع بقية..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.