أعترفُ أني بعد الألفين لم تعد تبهرني السنوات، وما عدت أعدّها عدّا، هو الأمر الذي يجعلني أتفاجأ بهذا القفز الذي وصلت إليه الآن. ماذا فعلتِ في ذاك التراكم السنوي؟ وهل أنجزتِ ما خططته في دفاتر التخطيط والأهداف؟ وماذا عن أهدافك وخططك للعام القادم؟
لا شيء، تحررتُ من أسر التخطيطِ وحصار الأهداف، لأعيش في اللاشيء..
أصبحتُ أحبُّ أكثرَ من أي وقتٍ مضى..
أصبحتُ أمشي بأكوام من الأمل والعزم بلا وجهة ، ولكني أمشي وأمشي، ولن أكلّ..
أصبحتُ بيقين بالغٍ طالما أني أشكّ وأتساءل، وأعفو وأصفح وأصارح، وأفعلُ ما أريد، وأقولُ مافي جوفي دون مواربة..
أصبحتُ أملكُ الجرأةَ لرمي الفائض من قصاصات الورق والحاجات والأسماء، أصبحتُ أخفّ ثقلا، وكأني سأرحلُ غدا..
وعلى خط الزمن، جلستُ وتأمّلتُ، فكتبت..
في مرآة الحياة، نطبعُ آثارنا، فتهدينا انعكاساتها، منها نستطيع أن نقول: إننا أصبحنا أكثر نضجاً، عمقًا، وعياً.. ورغم كل ذاك تبقى الطفولة أهم عشرات المرات من أي شيء آخر!
لا يدركها إلا قلبٌ لم يهرم صفاؤه..
تمنيتُ لو أني أوقفتُ الزمن عند هذ االتاريخ من العام الماضي، كان هو كما هو..
تمنيت لو أني لم أتحدث في كثيرٍمن الأشياء التي سرقت أشياء كثيرة، قطعت عفويته، تفرده، روحه التي جعلتني أقول إنه هو..
يتملكنا الغباء حيناً فنكون في غيرِ ما نحن عليه مع من علينا أن نكون معهم كما نحن، ونكون كما نحن مع أولئك الذين لا يشبهوننا في شيء..
نصبح أكثرَ كلامًا وسؤالًا وشغفًا، نصبح نريد ملء كل الفراغات الممكنة بهم ليحتلوا مساحاتنا ويعمروها، لندخل عالمهم ونتعرف على مدنهم وشوارعها ومعالم الطريق فيهم، ليكونوا قريبين، ليكونوا عقارب ساعاتنا وتلك التكتكة التي تحدثها ببدء زمنٍ جديد..
نكون في تسارعٍ ونهم لانعلم أنه هو الذي سيأكل بعضاً من جمالهم حين يرحلون بسببنا، بسبب جهلنا، سذاجتنا، عنفواننا، عفويتنا المطلقة، كلماتنا التي انطلقت دون حارس، أسئلتنا التي كانت شلالاً دون عائق، كانت معهم دون مكياج، من الوِرد خالصة..
نقول في أشياءَ كثيرة، ياليت، لكننا نعلم أننا لو عدنا إلى حضرتهم سنفقد كل حساباتنا، منطقنا، وسنعيد سيرتنا الأولى! ونرتجيهم هلاّ قرأتمونا؟
بعضُ الأشياء تقوم هي بِنَا، تكتبُنا، تقرؤنا، تدفعنا، تجعل للحظتنا معنى، قبل أن نقوم بها، قبل أن نكتبها، حتى قبل أن نقرأها، قبل أن يكون للحظاتنا معنى! هذه التفاصيل الصغيرة، هي التي تجعل لحياتي الصغيرة معنى..
أومن أنّ الحياةَ أطول من دقائق الانتظار التي نقضيها في البحث عن معناها، وأقصر من دقائق الطريق الذي نخطوه سعياً للوصول إلى ما نرجو، وأنّ السير فيها هو الأثمن، لذلك لا أبخل على نفسي أن أعيشَ ذاك الجمال الذي أودعه الرب فيها، دون انتظار جزاء أو شكورا..
حين يقيس الكاتب ثمن كتابه بعدد مبيعاته،
وحين يقيس الفنان جمال لوحته بعدد زوار معرضه،
وحين تقاس أهمية منشور بعدد الإعجابات والمشاركات،
فإنه يكون قد سلك مسار الإجحاف مع روح ما كتب وأبدع..
تماما كذاك العبد الذي يقضي الليل يناجي ربه ومن ثم يتساءل: أين عطايا مناجاتي في مالي ورزقي وأعمالي؟ أين رد الله؟
حين نعمل لأننا ننتظر شيئاً ممن نحب، نكون قد وأدنا روح الجمال فينا بعباءةِ الأنا المتضخمة فينا..
ذاك الجمال في لحظةِ السؤال ذاته كافية!
تذكرني بتلك العظمة الإلهية التي ما صدت باباً لمن صفا أو كُدّر، لمن سمت روحه أو لمن أثقلته أدرانه، "فإني قريب"، وأيّ لطفٍ ذاك!
يكفينا السؤال.. وبه نحيا!
من جميلِ ماقرأت أنّ دودة القز إذا ما خرجت من شرنقتها بعد ما أنتجت الحرير، فإنها تقضي عليه كله تمامًا كمن نقضت غزلها أنكاثا.
هنا أتخيل كم من الدود سيُقتل عند إنتاج شالٍ واحدٍ من الحرير! ومن أهم الصانع أم المصنوع هنا؟
بتّ أفهم أكثر ذاك الذهول الذي كان ينتابني لمّا يجيبني البائع عن ثمن وشاح من الحرير،
وأرى فيه صورة العديد من الضحايا التي كابدت نفسها لنراها فيه، فأسترخص الثمن الذي قال، وأيّ ثمنٍ لنفسٍ كابدت!
وكذا نحن، فكم من آمالنا اقتاتت على موائد آلامنا وكان علينا حينها الذبول سعياً للوصول!
ماذا لو عشنا بحلمٍ ذاتي فقط؟
ماذا لو كانت الأنا فقط هي من تقود أحلامنا؟
وما الذي ستختلف عنه لو صيغت الأحلام بقالب النحن؟
هل تكون أحلامنا العامة حينها ثمناً يبخس منا حلماً ذاتياً ارتأيناه؟
بتّ أدرك في قرارة داخلي أنّ أكملَ الأحلام هي تلك التي تبدأ بحلم ذاتي وتنتهي بالعام. قلتُ ذلك مع عقلي وأخذ هو الآخر يمطرُ عليّ بوابل أسئلته: هل للأحلام قيمة تتفاوت؟ هل تخضع هي الأخرى للطبقية؟ هل تعلو قيمتها مع تقدم العمر فيُنظر لسالف ما حلمنا بأنه ضرب من العبثية والعنفوان؟ أم أنها تهرم كلما كبرنا وتتضاءل على مقصلة العمر حتى تموت؟
أوقفتُ تلك الجلجلة التي أحدثها عقلي في مصارع فكري وقلت: لا.. لا ياعبير، ما كانت أحلامك لتخطئك، آمني بكل حلم كان في ضيافتك، مهما بدا لك تافهاً، أكرميه، حدّ الشبع، تبدو بعض الأشياء البدهية لديك حلماً عند آخرين، كما العكس.
"وماذا لو أكرمته وخانك؟" قال لي عقلي، سرحتُ بعيدا: "محقٌ يا عقلي أنت وما أقسى خيانة الواقع حين تأتيك من نفسك أو من أهلك أو من وطنك، كم من الأحلام شُنقت على مقصلة الواقع". "وكم من واقعٍ احتضر تحت مظلة الأحلام"، رد عقلي.
"صحيح، لكني أومن بما قاله درويش يوما "على قدر حلمك تتسع الأرض"، ويملؤني الإيمان أيضا بأن الله يعلم ما لا نعلم ويرى ما لا نرى، لذلك سأبقى أسير وأسير حتى أصل"، وماذا إن لم تصلي؟ وماذا إن وصلت ورُددت؟ أسيبقى قلبك عامرا بحلمك؟.. سؤالٌ تلو الآخر على منصة العقل راودني.
لا أعرف كم من العمر سيُرزق حلمي، ولكن ما أعرفه تماماً أن الطريق إلى الحلم أجمل ما فيه، لذلك لا يهمني إن كان قدري يخالف حلمي، فيكفيني أني إنسان، ولكل إنسان ماسعى!..
قلتُ والسلام يأتيني من الداخل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.