يخطر في بالي بيت شعر كلما ذكرت حلايب وثرواتها الموجودة فوق الأرض وتحته:
كالإبل في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول
حلايب، هذه القطعة من الأرض التي تساوي في مساحتها دولة الكويت، غنية بكل أنواع الثروات المعدنية، وخصوصا الذهب والفضة وخام الحديد، كما هي غنية باليورانيوم والفوسفات، بالإضافة إلى النفط؛ حيث تتحدث تقارير عن وجود 500 مليون برميل من النفط في جوف المثلث والحدود البحرية المجاورة لها، ولكن هذا الغنى في الموارد لم ينعكس على مواطنها البسيط على الإطلاق، فمواطنو حلايب ظلوا على حياتهم البائسة؛ يعيشون حياة البداوة والرعي قرب جبالهم العالية دون أن ينالوا أدنى اهتمام من الحكومات المتعاقبة.
عندما نظرت إلى البحر أمام المثلث، بهرني لونه الأزرق الناصع. إن الشاطئ في حلايب يشابه في نظافته شواطئ هاواي، إن شاطئ حلايب هو من نوع الشواطئ الذي لم تمسها أيدي البشر، إنه نموذج لما يسمونه بالشواطئ العذراء. ألقي في خاطري مسألة طالما سمعت عنها وهي رغبة مصرية في التمدد نحو الشواطئ، حيث تعتبر السياحة الشاطئية مصدراً كبير للعملة الصعبة في مصر، ولكن شواطئ الغردقة ومطروح وشرم الشيخ استهلكت وتلوثت كما أنها بيعت لرجال أعمال ومستثمرين جشعين، ولذلك عندما تجد مصر هذا الساحل الممتد في حلايب وهو بهذه المواصفات الرائعة، فإنها لن تتركه حتى إنني على قناعة أن مصر لو فرض عليها التقسيم لأخذت المناطق الساحلية وتركت المناطق الداخلية المليئة بالذهب والمعادن للسودان.

فالشاطئ هو الذي جاء بمصر إلى حلايب عندما دخلت بادعاء مراقبة البحر الأحمر من إسرائيل عام 1971م وليس المعادن، فمصر غنية بمختلف أنواع المعادن وخصوصا في سيناء التي يطلق عليها أرض الفيروز، ولديها منجم السكري الذي تصدّر منه أطنانا من الذهب نحو أوروبا وكندا وأمريكا، وبالتالي فالمعادن ليست غرضها الرئيسي، ولكنه البحر حيث توجد أسهل الطرق لجني الأموال باقتصاد الخدمات والسياحة والفندقة، ومن معرفتنا بالحكومة المصرية فإنها من أكسل الحكومات في استخراج الثروات إذا كان في الأمر مشقة، والتنقيب عن المعادن ليس عملا سهلا، إنه عمل شاق يحتاج لجلد وصبر.
كثير من أهالي حلايب يشعرون بالضغينة تجاه الحكومة المصرية والسودانية معاً، وتتعالى أصوات بعضهم لتقول لسنا مصريين ولسنا سودانيين فاتركونا وشأننا لنعيش، أعطونا دولة مستقلة أو حكما ذاتيا. جزء كبير من شباب المثلث يفرون منه نحو أوسيف هربا من القبضة الأمنية الخانقة، لقد زرع جهاز أمن الدولة المصري جاسوسا في كل شبر من المثلث، ولأتفه الأمور يتم اعتقال المواطنين هناك، وكذلك جندت المخابرات المصرية عدد كبيراً من أبناء المثلث وكلفتهم بالتجسس لصالحها، فالذي ينجو من تجسس أمن الدولة المصري يقع فريسة لجهاز المخابرات المصري والعكس كذلك.
إن أهل حلايب ينظرون إلى السودان كبلدهم الذي تخلى عنهم وتركهم فريسة للحكومة المصرية تفعل بهم ما تشاء. لقد نسي السودان قضيتهم ووضعها في الرف بتفاهم سري كما يشاع من عام 1995م بعد حادثة محاولة اغتيال حسني مبارك، ولم يتذكرهم إلا عندما قرر المصريون خلع مبارك وانحسرت أقوى كروت مصر في مواجهة السودان وظهرت اتفاقية 2010م لدول حوض النيل المسمّاة باتفاقية عنتيبي، ومن بعدها تحركت إثيوبيا لبناء سد النهضة، وعندها فقط تذكر السودان حلايب ووضع قضيتها على الطاولة بعد أن كان يدعي تصديق كلام مصر عن اعتبار حلايب منطقة تكامل طوال عهد مبارك.
كل من تلاقيه من أهل حلايب يقول لك لقد كرهنا هذا البؤس وهذا العذاب، لماذا يتم اتخاذنا كرهائن في صراع الأخوة الأعداء، القاهرة والخرطوم؟ ولماذا تقطع أرحامنا ونمنع من زيارة أهلنا على الجانبين؟ |
استطاعت القاهرة في بداية دخولها للمثلث عام 1992م أن تشق صف السكان مستفيدة من غباء حكومة الخرطوم وأخطائها، قال لي وكيل ناظر البشاريين، تصادف دخول المصريين لحلايب مع إعدام نظام الإنقاذ للضابط العميد طيار محمد عثمان كرار (الذي كان بعثيا) وهو نجل شيخ البشاريين والذي قام بقيادة محاولة انقلاب فاشلة في أبريل عام 1990م، قال إن وفداً من قائد الجيش المصري جاء إليهم في العزاء ليحرضهم على الترابي (الكافر) الذي قتل منهم أرجل الرجال، وأن كلامه هذا وقع من الناس موقعا، خصوصا بعد أن كان الغضب يتملك قلوبهم والحسرة، حيث أعدم الضباط قبل ساعات من العيد في سلوك لم يعهده السودانيون من قبل، وقال لي: المصريون اختاروا توقيت دخول حلايب بعناية جدا في أكثر وقت لن يدافع فيه السكان عن الحكومة بسبب ما قامت به في حق الضابط نجل شيخ البشاريين .
ليس هذا فحسب، فقد تبين لي من سماع أقوال الأهالي أن محمد طاهر سدو، الذي يسميه الإعلام المصري بشيخ مشايخ حلايب وشلاتين وأبو رماد، ليس شيخا قبليا ولا يحزنون، بل إنه كان ناشطا في الحزب الاتحادي الديمقراطي وعضوا برلمانيا في الحكومة التي سبقت انقلاب عمر البشير، وعندما حصل الانقلاب تم التنكيل به من قبل أجهزة الأمن السودانية ما دفعه للارتماء في أحضان المخابرات المصرية التي وظفته بذكاء كأداة قمعية لها في داخل المثلث، وكمتحدث حصري عن مشايخ حلايب.
وقد كنت أتعجب من حديث الرجل في الإعلام المصري البعيد كل البعد عن مصلحة قبيلته، والذي هو حديث سياسي بامتياز ربما يتسبب بضرر ما تبقى من أهله البشاريين في داخل السودان، فقيل لي إنه معين من قبل شؤون القبائل المصرية كمتحدث باسم أهل حلايب، وهم منه براء، والأمر أيضا ينطبق على من يدعي أنه نائب عن حلايب، والرجل لا يقيم في المثلث أصلا، بل هو مقيم في القاهرة، وتم اختياره بعناية من المخابرات المصرية لأن والدته مصرية فقط.
كل من تلاقيه من أهل حلايب يقول لك لقد كرهنا هذا البؤس وهذا العذاب، لماذا يتم اتخاذنا كرهائن في صراع الأخوة الأعداء، القاهرة والخرطوم؟ ولماذا تقطع أرحامنا ونمنع من زيارة أهلنا على الجانبين؟ متى يجلس الطرفان ويحلان هذه المشكلة ذات الخمسة والعشرين عاماً؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.