تتخندق كثير من مؤسسات الإعلام العصرية اليوم في مؤسساتها المعلومة جغرافيا ومعرفيا، ويدخل الموظف مهما ارتفعت رتبته لها بمستوى معلوم ويخرج منها بذات المستوى الذي دخلها به، اللهم بما زاد عليه من عبء الضغوط النفسية وإشكاليات العمل ومراكز قوة الزملاء والضغط الإداري ونحو ذلك مما تعارف عليه العاملون في مؤسسات الإعلام العصرية الروتينية المحكومة بعصا الحكومات والدول تارة، وبمتطلبات الشهرة والمنافسة تارة أخرى.
تأزيم وعي الشعوب من خلال الإعلام الفوضوي، وتوجيه الخطاب غير العقلاني نحو مجتمعات غير مستقرة البناء الفكري والاجتماعي، والعصف العبثي بالأفكار الغبية والتلاسن والضغط والحث الإعلامي المبرمج باتت ملمحا واضحا من ملامح هذه المرحلة التي نعيشها، مؤسسات تتبع الحكومات وتلبس لبوس الإعلام، وإعلاميون هم للببغاوات أقرب منهم للبشر، وهيمنة عسكرية على ما يبث زمانا ومكانا وعنوانا وإنسانا، وهذا يقود لنتيجة حتمية واحدة، هي الفوضى العارمة، الفوضى التي لن يستطيع واضع القرار أن يتعامل معها بعد أن تنفلت من عقالها.
ما بين حديثنا مع النخب الإعلامية المختصة وحديثنا مع العامة، نجد أن القاسم المشترك لهذا الهراء المستفحل هو انقياد الإعلاميين ومؤسسات الإعلام إلى القبول بإملاءات وتوجهات وشروط الحكومات الاستبدادية التي باتت تسخر جهدها وطاقتها لتعمية الشعوب بدل نهضتها، والرفض النخبوي والشعبي لمثل هذا الواقع قارب أن يبلغ مداه، فلا الجمهور مقتنع بما يُطرح ويقال، ولا هو قادر على تغيير المعطيات وفق ما يطمح إليه، وهو ما يعني الكبت الداخلي الذي سيقود حتما لانتفاضة عارمة لن تبقي ولن تذر.
المجتمعات العربية لطالما عودتنا على قدرتها على إيجاد النمط الإعلامي الذي يتوافق معها، وابتكار الوسائل والتقنيات التي تمكنها من امتلاك المعلومة من مصادر تراها موثوقة بعيدا عن هيمنة أذرع الحكومات |
تجدر الإشارة هنا إلى المراحل المتقدمة من العداء والملاحقة والتضييق على الإعلام الخاص، والملاحقة بالذم والتشهير والقَدْح -إن لم يكن بالاعتقال والقتل- في شخوص الإعلاميين الذين يحاولون التغريد خارج السرب الذي طأطأ رأسه، وهذا التضييق المفضوح والمركز على الإعلام المستقل والإعلام المعارض يعني شكلا جديدا من الاستبداد يمسّ هوية الإعلام ومرتكزات التأثير المترتبة عليه.
وإذا ما أضفنا عوامل: الاستبداد إلى السيطرة على مؤسسات الإعلام، إلى خلق بيئة إعلاميين مشوهين سلوكيا، إلى محاربة الإعلام المحايد والمعارض على حد سواء، فنحن بالفعل أمام معضلة حقيقية، معضلة تتطلب من الاتحادات والنقابات الإعلامية والصحفية أن تباشر فورا بالضغط لتغييرها وتخفيف الضغط والتماسك بينها بالحد الأدنى، فصمت الاتحادات النقابية التخصصية غير مبرر إطلاقا، وعدم اكتراثها بشطب مفهوم وسلوك الإعلام الحر الذي تمارسه السلطات الحاكمة يعني اشتراكها في الجريمة معها بصورة مباشرة.
لكن المجتمعات العربية لطالما عودتنا -ولو بزمن قد يطول قليلا- على قدرتها على إيجاد النمط الإعلامي الذي يتوافق معها، وابتكار الوسائل والتقنيات التي تمكنها من امتلاك المعلومة من مصادر تراها موثوقة بعيدا عن هيمنة أذرع الحكومات والدول الاستبدادية، وها نحن اليوم نتحدث عن انطلاقات عديدة في عالم الإعلام الاجتماعي بوسائله المتجددة، ليكون بمنصاته البديلة بديلا، ولتصبح منابر تيليغرام وواتس أب وفيسبوك ومجموعات فايبر وتانغو ومنصات الإعلاميين الخفية وغير المعلنة ميدان تبادل للمعلومة وتحليل وطرح لها، بما يؤذن بميلاد مرحلة جديدة، هي مرحلة ما بعد هذا الإعلام العبثي الموجه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.