شعار قسم مدونات

نفس واحدة

Blogs- friend
وصية جاءت على لسان علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، الذي لا يتكلم إلا فيما يعنيه، قال: الأصدقاء نفس واحدة في جسوم متفرقة. نفس تخلق لك السعادة وتخشى عليكَ من انكسارات الحياة وتجبر خاطرك في البوح والكتمان، نفس تغار عليك من قطرات مطر تلامس وجهك، نفس تتوه بدونك كطفل صغير تاه عن أمه، نفس تقاتل وتحيا لأجلك، وتصبر وتتعب وتشقى لتحقق هدفك، فما أروع أن تكون لك نفس تلجأ إليها تسر إليك وتسر إليها، وما أجمل أن يسخر لك الله روحا ترى روحك فيها.
 
الصداقة زهرة كلما اعتنيت بها نمت في قلبك وتعلقت بها، والأصدقاء ثلاث أزهار، زهرة جميلة ذات أوراق نادرة تقاوم وتعيش لفترات وتلك أطول الأزهار عمرا، وزهرة جميلة ذات أوراق لزجة وناعمة لكنها مرتجفة سرعان ما تسقط، وزهرة جميلة ذات أوراق طويلة مقطعة بسبب الرياح وتلك تزدهر تحت أشعة المصالح، وما يجمع الأصدقاء هو ذلك الجمال الذي تلمحه، العين لكن لكل صديق جمال لا يرى، وفيه من الأزهار رائحتها، فمنها من يبقى تذكارا تحمله معك، ومنها من يزول بزوال النعم، وفيها ألوانها، فمنها من يصيبك بالملل ومنها من هو راحة وبركة.
 
أن تفهم صديقا وتصل إليه ربما يحتاج منك سنين طويلة، لكن أن تنهي ما بينكما وتطفئ جمر المحبة، فهذا يحتاج منك دقائق، ولن تحس اليوم أو غدا بخسارتك لأنك لم تدرك بعد قيمة الأشخاص، ولكن بمرور الوقت ستكتشف أنك ربما لو تغاضيت عن تفسير بعض المواقف بكل دقة لأنقذت صديقا من مقبرة حطامك، فأن تقف عند بعض الإساءات فتلك حماقة منك، وأن تستنزف الأيام ولياليها في تعداد محطات الحياة أشد حمقا من محاولة تجاوزها.
 

صديقك ضوؤك ونورك في الدنيا رغم الأيام المعتمة، هو البريق المشع الذي يدفعك نحو دائرة من النجاحات المضيئة
صديقك ضوؤك ونورك في الدنيا رغم الأيام المعتمة، هو البريق المشع الذي يدفعك نحو دائرة من النجاحات المضيئة
 

يقول الحسن البصري "أدركت أقواما لم تكن لهم عيوب فتكلموا في عيوب الناس فأحدث اللّه لهم عيوبا، وأدركت أقواما كانت لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس فستر اللّه عيوبهم". في كل كلمة عبرة فقط تحتاج منك التأمل الصادق، ولا بأس أن تكون ذلك البريء الذي لا يفهم شيئا، ومثلما تغض بصرك عن المحارم فغض بصرك عن صديق أساء أو أذنب، فيمكن أن تفتن أنت بذنوبه فتذهب عنه سيئات ما فعل، ولتستشعر قيمة الصداقة فعلا، ولتأخذ القدوة من رسولنا وحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي أرشدك إلى ذلك بقوله: لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي، والله سبحانه وتعالى يقول "الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ"، سورة الزخرف، الآية 67.
 
صديقك ضوؤك ونورك في الدنيا رغم الأيام المعتمة، ذلك البريق المشع الذي يدفعك نحو دائرة من النجاحات المضيئة، فلذة كبدك التي وهبتك حياة جديدة، ومن فقد فلذة كبده زاره شوق الرحيل إليه، فلو نظرنا إلى الصديق نظرة تسامح، ولو أدركنا ما عقاب الله للمتخاصمين لجعلنا من الخصام حبالا لوصل الأرحام، حيث يقول شيخ الإسلام ابن تيمية "ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة".
  
كم سمعت قصة صديقين كانا كالجسد والفؤاد الواحد والروح المعلقة ببعضها البعض، يسيران على منهج القرآن وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، جمعتهما المحبة والتعلق بالله، وفرقت بينهما وساوس الشياطين وخذلان الحياة، ومضت بينهما الفتنة كالنهر الذي يجري إلى أن سكن الفراق منتصف كل شيء، وشلت الكراهية كل جميل، وتقلصت ضلال الكلمة الطيبة، وانهارت خيالات الرضا.

يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "ينبغي أن يكون فيمن تؤثر صحبته خمس خصال؛ أن يكون عاقلا حسن الخلق غير فاسق ولا مبتدع ولا حريص على الدنيا"، فصادق حكيما صامتا لا متبعا للهوى ثرثارا، حافظا للقرآن متخلقا لا جاهلا معرضا عن سبيل الله، طائعا مخلصا صادقا يفعل كل شيء لا كاذبا منافقا فاسدا.

  

إن لم تكن على خصومة مع أحد، فأنت على خير كبير، فإصلاح القلب أساس العلاقات الاجتماعية
إن لم تكن على خصومة مع أحد، فأنت على خير كبير، فإصلاح القلب أساس العلاقات الاجتماعية
 

فاعلم أيها المحب في الله أن الحب والتراحم يجب أن يكون ثابتا لا محالة، وكل صداقة بنيت على أساس متغير فهي فاشلة، لأن الصداقة أصلها أن تكون لله، وعندما يكون الحب في الله لا يموت، ومن هجر لهوى نفسه أو هجر هجرا غير مأمور به، كان خارجا عن هذا، والهجر لحظ الإنسان لا يجوز أكثر من ثلاث كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام".

 
وعن أنس رضي الله عنه قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال له عمر: ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما: يارب خذ لي مظلمتي من أخي، فقال الله: كيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء! قال: إن ذلك ليوم عظيم يحتاج الناس أن يحمل من أوزارهم، فقال الله عز وجل للطالب: ارفع بصرك فانظر. فرفع فقال: يا رب أرى حدائق من ذهب مكللة باللؤلؤ! لأي نبي هذا ؟! أو لأي صديق هـــذا؟! أو لأي شهيد هـــذا؟! قال: لمن أعطى الثمن. قال: يارب ومن يملك ذلك؟!! قال: أنت تملكه، قال: بماذا؟! قال: بعفوك عن أخيك، قال: يارب إني قد عفوت عنه. قال الله عز وجل: فخذ بيد أخيك وأدخله الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك "اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يصلح بين المسلمين".
  
إن لم تكن على خصومة مع أحد، فأنت على خير كبير ورحمة ربك خير مما يجمعون، فلا يفوتك أن تصلح قلبك بالنية الصالحة والعمل الصالح وادفع بالتي هي أحسن، فكلنا من نفس واحدة، قال تعالى "يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ من نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.