شعار قسم مدونات

كأس الماء والنفق

Blogs- sad
هناك أشخاص إيجابيون، يؤمنون بأن الحياة تهدي أضواء في آخر النفق، يرسمون الشمس صفراء مشرقة حين يخربشون ويضعونها في قلب سماء زرقاء صافية تغطي بيتا جميلا بجانبه شجرة، لا يقبلون بغير النهايات السعيدة ويرددون دوما أن "كل شيء سيكون على ما يرام"، يستبعدون الاحتمالات السلبية ويتشبثون بالأمل على الدوام؛ يقودهم الحماس للانفتاح على مختلف الإمكانات التي تتاح لهم لدرجة التهور، فيحيون بشغف ويبحثون عن نشوة تجعلهم يسلكون طرقا غير محمودة… بداخلهم طاقة تجعلهم متحمسين لكل خطوة يقدمون عليها متجاهلين كل مخاطرها ومركزين على نسبة نجاحها مهما بدت ضئيلة، متيقنين من أن رغبتهم وإصرارهم كافيان لجعلهم يحققون كل ما يصبون إليه…
 
وفي المقابل، هناك المتعبون، أولئك الذين يجرجرون أقدامهم بصعوبة على دروب الحياة، المخنوقون ذوو النفس القصير، الذين يعتقدون بأن الحياة نفق مظلم وطويل لن يبلغوا نهايته مهما تقدموا وسيؤول بهم الحال للهلاك في قعره؛ يؤمنون بأن حلكة الظلام لا تنجلي والأجواء الغمة لا تنفرج، يرسمون بأقلام الرصاص فقط، ويشكلون دوامات بجانب قلوب منكسرة إلى نصفين يعبرها سهم وإلى جانبها أعين باكية، متشائمون، يائسون، يمضون الوقت في انتظار أن تحل كارثة… يحتقرون نور الشمعة حين يحل الظلام ويعلنون الفشل قبل انتهاء المعارك التي يخوضونها؛ يتراجعون إلى الوراء عشر خطوات مقابل كل خطوة صغيرة مترددة إلى الأمام ويظنون بأن الكون يتحامل عليهم متذمرين من مدى خبثه…
 
وبين النزعتين، صنف آخر من الناس يشمل الذين لا يسرحون بخيالهم بعيدا إلا سهوا، وإن فعلوا يلغون كل الاحتمالات التي قادهم إليها -خيالهم- ليعاودوا التقييم بالشكل الأقرب إلى الواقع؛ منطقيون، يعرفون حدودهم ويثقون بقدراتهم دون مبالغة ولا احتقار، يعرفون متى يجب عليهم التقدم ومتى يتحتم الاستسلام لأنهم يقرون بوجود المستحيل إلى جانب الممكن، يدركون بأن الأقدار بخيرها وشرها كتبت لا لتجعلهم يحيون ولا لتقتلهم، فلا ينظرون لأنفسهم كأبطال تتحداهم وتعتبرهم جزءا من حساباتها، بل كمجرد شخصيات ميكروسكوبية في عالم شاسع لابد وأن يكون لهم نصيب مما يترتب عن مجرياته. يؤمنون بأن الأبيض أبيض والأسود أسود، ولا مدلولات خاصة لذلك، وأنهم مهما ضحكوا في وجه الحياة فهي لن تضحك لهم، ليس لأنها لا تحبهم بل لكونها لا تضحك وبكل بساطة، كما لا تبكي أو تكشر.
 

المثيرون للشفقة هم الذين لا يرون الكأس، وربما يرونها ويرون الماء الذي فيها أيضا لكن هذا لا يحرك فيهم ساكنا ولا يثير فضولهم، لا يرون نصفا فارغا ولا نصفا ممتلأ، لا نفقا ولا أضواء
المثيرون للشفقة هم الذين لا يرون الكأس، وربما يرونها ويرون الماء الذي فيها أيضا لكن هذا لا يحرك فيهم ساكنا ولا يثير فضولهم، لا يرون نصفا فارغا ولا نصفا ممتلأ، لا نفقا ولا أضواء
 

جميعهم، -المتفائلون والمتشائمون والواقعيون-، لهم مواقف واضحة ورؤية مميزة مهما بدت سخيفة أو سوداوية أو ميكانيكية؛ أسلوبهم في الحياة متناسق وواضح وهذا في حد ذاته مكسب… فغير بعيد عنهم، يحيا الضائعون ووضعهم هو الأكثر تعقيدا، لا تصور لديهم عن ماهية الحياة ولا منطقها، لا يثقون فيها ولا يتوجسون منها ولا يعتمدون على خطط عملية للتعامل معها فلا يحلمون ولا يحبطون ولا يجرون حسابات، لا يلجؤون إلى الحدس ولا يستخدمون المنطق… يستسلمون للظروف دون بدل أدنى جهد لأخذ قرار أو اختيار موقف معين؛ يميلون إلى البؤس مع اليائسين، يدعون الطموح مع الحالمين ويتظاهرون بالعقلانية مع المنطقيين؛ لا يصيبهم الإحباط حين يفشلون، ولا يتمنون شيئا حين يحتاجون، ولا يخططون لشيء ولا يقررون…
 
ينظرون إلى حالهم نظرة حكم منصف يتبنى الحياد وكأنما ليسوا جزءا من اللعبة؛ موجودون ليعيشوا اللحظة كما هي وفي وقتها فقط، دون تهويل ولا استصغار ولا ملل ولا انتظار، فلا يتوقعون مفاجآت حلوة ولا يخشون عكسها، مقتنعون بأن الحياة لا تعطي مزايا خاصة ولا تأبه لتوقعاتهم مهما آمنوا بها..
  
هؤلاء، وضعهم هو الأكثر تعقيدا؛ فالمثيرون للشفقة ليسوا من يتغنون بالجزء الممتلئ من الكأس، ولا الذين يمعنون النظر في الجزء الفارغ منها ولا حتى الذين يرون كأسا بها ماء ترتبط قيمته بقدر العطش الذي يحسون به في لحظة من الزمن لا أقل ولا أكثر… المثيرون للشفقة هم الذين لا يرون الكأس، وربما يرونها ويرون الماء الذي فيها أيضا لكن هذا لا يحرك فيهم ساكنا ولا يثير فضولهم، لا يرون نصفا فارغا ولا نصفا ممتلأ، لا نفقا ولا أضواء ولا أيادي خفية تصلح الأشياء أو ترتب الأجواء تحضيرا لقدوم المصائب؛ لا يقرأون ما بين السطور ولا السطور نفسها، لا يرسمون منازل ولا يبنونها في الواقع… لا يشكل وجودهم في نفق أو مغارة فرقا، ولا تعنيهم الكأس أصلا ولا الماء الذي يوجد فيها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.