في خضم حياة "المسارعة في الأعمال" لم يبق لدينا وقت حتى لنقف قليلًا مع أنفسنا، فكيف بالوقوف لقليل من الوقت مع الوحي؟ ومع تلك المسارعة، يقف الواحد منّا مذهولًا من تناقص زاده الإيماني، يحارب ليستعيده، لكن ما أعسر إعادة المكسور! ثبت في الوحيين (سنة وقرآنًا) مفاهيم أساسية تربط أجزاء الحياة بعضها ببعض، تجعلك تفهم مسيرة هذا الكون، تنظّم طريقة تفكيرك وعملك، وتضع لك قوانين عريضة، عنوانها "طريق الفلاحين، فلاح الآخرة وفلاح العاجلة".
كم نحتاج اليوم كمسلمين للتمسك بتلك المفاهيم الأساسية، حيث هي مناطق بيضاء تمامًا، لا خلافات عقديةً فيها، ولا فقهيةً أيضًا، هي مفاهيم ذلك الأعرابي السائل لسيد الخلق –صلى الله عليه وسلم-: أرأيتَ إذا صليتُ المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئًا، أأدخل الجنة؟ فكان الجواب المباشر: نعم!
أول المفاهيم تلك وأهمها هو مفهوم "الغاية من وجودنا" يثبته القرآن صريحًا في مواضع "وَمَا خَلَقْت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، ويثبته مضمّنا في الكلام في مواضع أخرى "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ" -تعالى سبحانه عن خلقنا عبثًا- لكن المشكلة لا تكمن في معرفة هذا المفهوم، بل يمكن القول: إن الإشكال هو في العيش معه كمفهوم وحييٍّ مقدّم على غيره، وفي استذكاره عند الحاجة إليه.

تخيل نفسك في سفر إلى بلد لا تعرف أحدا فيها، وانقطعت بك السبل، وجاءك رجل غريب، استضافك في بيته، أطعمك وآواك وأعطاك مبلغًا كبيرًا من المال، وختمها قائلًا: "أردت تكرمتك على كل من أتاني، عش مكرّمًا"، أي امتنان ستشعر به حينها؟ هل من العقل أن تكرهه بعد ذلك، أو تعصيه لو أرادك بشيء؟ إذن دعني أسأل: أنت يا من تقرأ هذه التدوينة بعينك، وتفهمه بعقلك الكامل، الذي غذّيته قبل قليل بطعام لا يجده غيرك ممن يشاركك نفس الكوكب، وتحرّك المقال بأصابعك العشرة المكتملة المخلوقة على أحسن هيئة للحركة، وقلبك ريثما تقرأ هذا المقال ينبض بين 60 إلى 90 نبضة في الدقيقة، وأنت لا تقوم بأي جهد لذلك، هل أحسست بشيء من النعمة التي أعطانا الله إياها؟
يتولى رزقك في عملك، ويتولى حفظ ابنك في مدرسته، ويتولى حماية امرأتك في بيتك، ويتولى دعوات المظلومين في بقعة أخرى من الأرض، يحفظ عليك نعمه المتتالية، لا سهوًا كسهو المخلوقين فيتوقف قلبك عن العمل، ولا نومًا كنوم الضعفاء فتتوقف كلى أحدهم عن التصفية، ولا ضعفًا كضعف المتجبرين فيغفل عن السماوات فيقعن، أو يغفل عن الأرض فتميل وتترك مسارها الذي تدور فيه، فهو فاطرهم وبارئهم "خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ" لا تأخذه سنة ولا نوم، تعالى جده، ولا إله غيره!
هو العزيز الذي خلق كونًا لا يدرك العقل أوله من آخره، خلقنا في مجرة من ملايين المجرات، تحتوي 200 إلى 400 مليار نجم، خلقنا في واحد من أصغر الكواكب الموجودة في تلك المجرة، ليقول لنا في القرآن "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ" ويحمّلنا أعظم أمانات الكون؛ كلامه، جل وعلا. وذاك نبيه -صلى الله عليه وسلم- عندما علم نعم الله تعالى عليه وعلى أمته وعلى الخلق أجمعين، بعد أن تفطرت قدماه، نطق بما يرعد القلب ويهز الجوارح "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟" وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر!
"والعبادة بذلك فضل يدرك بالبصيرة والجهد، وليس عطية مجانية أو حملًا تضج منه أنفس العقلاء.

"يا عبادي، إنكم لم تبلغوا ضري فتضرّوني، ولم تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا"، صدق رب السماوات والأرضين، صدق الحي الذي لا يموت. ينادي ملك السماوات والأرض، "يا عبادي"، يعزّنا بنسبتنا له، ويشرفنا بعبوديتنا لقواه المطلقة.
أي ربِّ، عرفناك في آيات الكون، عرفنا رزقك وتدبيرك وخلقك وأمرك، عرفنا محبتك ومغفرتك وعدلك ولطفك، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، نحن بك وإليك، تباركت وتعاليت، نستغفرك ونتوب إليك.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.