منذ نعومة أظافري وأنا ألهو في طرقات مدينتي كنت أعيش في حرية كعصفور يسبح بين الأشجار يغرد كيف يشاء حيثما شاء، يكتب ما يريد ويقول ما يقول بغير قيد أو تحجيم، وبعدما أصبحت فى منتصف عمري أدركت أن الحرية ليست ضدا للأسر ورأيت كم من أسير حر وكم من حر أسير، تمنيت أن أحيا وأموت حرا طليقا كالعصفور يملأ الدنيا تغريدا، وعلى غير المعتاد رأيت الفصول لا تأتي تباعا، فشاهدت بعد الربيع خريفا وبعد الربيع شتاء ورأيت الأوراق تتساقط في كل الفصول، أوراق شباب كالزهور ثائر في وجه رياح عاتية، فلم يكن الربيع العربي ربيعا وإنما الخريف كان ولا يزال خريفا والأوراق والأقلام لا تزال تتساقط، فكم من قلم حر أبى السجود كسروه، وكم من عزيز بغير ذنب أذلوه وقتلوه.
وفي أرض الكنانة أرض الحضارة والتاريخ، مصر الثورة.. الأزهر والتحرير.. زهرة شبابها خلف الأسوار ومعهم أقلام حرة وأصوات صادقة كانت تنقل الحقيقة.
منذ عصور مضت، وقبل نشأة الأقلام ووجود الصحف، كانت هناك صحافة وكان هناك إعلام وفي صور كثيرة وألوان متعددة، كان يمارس بين إعلام حر ومعارض وآخر خانع ذليل، فحين قال الله لموسى وأخيه "إذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى" كان إعلام ينقل الخبر والحقيقة في سرعة، كان إعلام هادف يسعى إلى الهداية والرشاد وتقويم سلوك ظالم طاغ لهذا الفرعون المتكبر الذي كاد أن ينصب نفسه إلاه لم يقتل موسى كما قتل ريجينى بل استعد وأعد مناظرة بين موسى والسحرة لم يسجن موسى وأخيه وقومه، كما سجن محمود حسين والوكيل والكثيرين.
وفي لمحة أخرى ما الشعر في الجاهلية عند صحن الكعبة والمعلقات إلا صحافة تظهر ما خفي على العامة وتحلل الآراء من خلال صياغة أبيات من الشعر ودوواين بمثابة تراث نفيس وهناك أخرى مادحة للساسة، تمثل الإعلام الذليل المقيد بأساور الحاكم عبر حفنة من الفضائح والوثائق مختلفة التصنيف، إنه الإعلام الساعى وراء المصالح الذي يكتسب الكثير من الأموال من وراء الأكاذيب ومدح من لا يستحقون، وكما نشاهد بل نتألم ونحن بين الحين والآخر نتابع ميديا "التوك شو" عبر الفضائيات الموجهة.
ومن العجيب أن ترى كثيرا من أصحاب تلك المصالح يؤثر في هذا الأمر ويذكرني بمصطلح "اللوبي" في السياسة الأمريكية، حيث يقوم أكثر من صاحب مصلحة ربما رجل أعمال أو حاكم أو سياسي بارز أو إعلامي آخر أو دولة نعم دولة صاحبة مصلحة تقوم بالتأثير على تلك الميديا والسيطرة والاستحواذ أحيانا داخل دولة أخرى، إنها خيانة لكل شيء للمبادئ والقيم والثوابت والمعايير المهنية والكل يسجد لهذا التوجيه تحت إغراء الأموال أو قيد الفضائح، بل يتلونون ويتشكلون كما يشاء من يوجههم، فتارة يؤيد وبعدها يعارض نفس الشيء الذي أيده، كما كان الشاعر المرتزق يفعل في الماضى من يغدق عليه يمدحه ومن يمنع عنه يسبه، من يخيفه يطيعه ومن لا يخيفه يهجوه، لذلك حذرنا الله حين قال "والشعراء يتبعهم الغاوون".
وقبل بدء الخليقة حينما وسوس إبليس لآدم وغواه أن يأكل من الشجرة واصفا إياها بشجرة الخلد بادعاء وإيحاء وتصوير لفهم خاطئ، حيث أكد بالقول المتكرر لآدم أنه من يأكل من الشجرة يخلد، وإنما هي اسمها الخلد "لأن الراكب يسير في ظلها مائة عام ولا يقطعها" وما كان إلا بمثابة إعلامي مضلل يحث على المعصية ويؤدي إلى الهلاك، الأمر نفسه الذي نراه ونسمعه من توجيه قيادات في أجهزة حساسة داخل الدولة للإعلام، وهي التي تظهر على الساحة ويفرض وجودها قوة وسلطة المنتفعين.
أما أصحاب الأقلام الحرة ومن ينقلون الحقيقة بمصداقية وشفافية من يعرضون الرأي والرأي الآخر ويتركون للعقل حرية التفكير والتمييز والوصول للحقيقة في زمن الديكتاتورية، فمصيرهم الحصار والمعتقلات والسجون فيتم إقصاؤهم ببشاعه عن الواقع الذي يكشفون حقائقة ويظهرون جرم تزييفه.
ولكنهم يستمرون وسينتصرون وستظل سنة التدافع باقية فهي سنة الله في خلقه، وسيظل الصراع بين الباطل والحق ليحق الله الحق ويبطل الباطل، كما وعدنا، وستظل الأقلام تكتب وتكسر سنسمع الأصوات بالحق تعلو وبالباطل تصيح، ولكن لن يستمر باطل أو يدوم طغيان، سيعود الحق منتصرا من معاركه وستسجل نصره الأقلام.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.