إن غياب ثقافة تدبير الاختلاف بين الشعوب العربية يزيد الطين بلة، إذ إن أغلب ثقافتنا ومفاهيمنا مؤسسة على النفي وعدم الاعتراف، وهذا الوضع يجب أن يصحح ويعاد الاعتبار إلى الحق في الاختلاف الفلسفي والقيمي والسياسي والهوياتي بين أبناء المجتمع والوطن الواحد؛ حتى نتمكن من الدخول إلى القرن الجديد وقد بنينا صمامات أمان لنا تضمن الحرية والتعايش والقدرة على الاختيار الصحيح.

إذا كان عبد الكبير الخطيبي يدعونا إلى إفراغ الكتابة التاريخية وتطهيرها من المنطلقات التي تقيد الشعب، فإني أستعير منه نفس المعاني للقول بوجوب إفراغ ذاكرة الشعوب العربية التي تعيش على وقع الربيع الديمقراطي، من مفاهيم سلبية مرتبطة بالخصوصيات المغلقة والثنائيات المتناقضة؛ والتي تجعل أغلبها حذرة، وفي بعض الأحيان متهجمة على المخالفين ولو كانوا يتشاركون نفس الوطن وقيم المواطنة. يعتقد الكثير من الفاعلين السياسيين أن مسألة اللعب على تناقضات الهويات والخصوصيات الثقافية والدينية يساهم في تكثيف الحماسة السياسية عند المنتخبين، مما يجعلهم يستقطبون الأغلبية أو يكسبون المزيد من الانتصارات السياسية، وهذا شيء مشين وخطير باعتباره يضرب في السلم الأهلي لأوطانهم ويهدم القيم الإنسانية المبنية على التفاهم والتعايش والحرية وفضيلة الاختلاف.
إن الأنظمة الديمقراطية الحقيقية التي يأمل الكثير منا تأسيسها أو النضال من أجلها لا يجب أن تكون منذ نشأتها محاطة بأسيجة من الحتميات الإيديولوجية غير التنويرية، والتي قد تنعكس سلبا على ثقافة الأجيال الناشئة، فالانغلاق في دائرة الصراعات ينهي الحريات ويقيم الأنظمة الشمولية المتشبعة بالقمع وبفلسفة الإلغاء ومفاهيم الاستبداد، وأظن أن هذا الأمر غير مقبول ومتجاوز خصوصا مع الانفتاح التقني والحضاري الذي يسمح للكثير منا بالاطلاع على آخر صيحات أفكار الأنظمة الديمقراطية وفلسفتها في تدبير الاختلاف والشأن العام عموما.
فالتحرر من فترات سوداوية من تاريخنا العربي والإسلامي يحتاج للكثير من الجهد لتفكيك ذاكرتنا المبنية أساسا على الخوف من النظام الديمقراطي الذي يسمح للجميع بمشاركة أفكارهم، وإعلان قناعاتهم، والعمل وفق القانون والدساتير المتعاقد عليها، دون تجاوزات ولا قمع ولا خوف من الشطط في استعمال السلطة أو النفوذ.
قد يتحدث البعض عن الرجة الثورية التي أصابت بعض دول الوطن العربي وعن ثورة الشباب، ولكنهم ينسون الحديث عما يجب القيام به لإخراج الفعل الثوري من مرحلة الدهشة الثورية والانتشاء الإيديولوجي الذي أصاب بعض التنظيمات، خصوصا منها المرتبطة بالإسلام السياسي، إلى الحديث عن إمكاناتنا القيمية والفلسفية لتأسيس أنظمة تعيد الاعتبار للإنسان وحريته وتحترم الحقوق وتنظم الواجبات بلا تفاضل ولا مصادرات، وفق رؤية تسود فيها المساواة والعدل والحق في الاختلاف وبلا تجاوزات ولا إسقاطات تاريخية لفكر مسه التقادم على واقعنا المعاصر، فالعقلانية والحداثة والمصلحة العامة وغيرها من المفاهيم الحديثة؛ تقتضي المرونة وتثقل كاهل الفاعلين وكذا المواطنين بالتزامات توجه مسار المجتمع الجديد والنظم الوليدة، لتكون أنموذجا يتفاعل مع الحقائق والوقائع المستجدة التي تخدم مصلحة الوطن وتنجيه من فخاخ الاستبداد ونيرانه المحرقة.

يعتبر سؤال التغيير في الوطن العربي سؤالا مهما وغير متوقع إلى زمن قريب في سياقنا السياسي والثقافي، بالمقارنة مع ما شهدته الأنظمة الشمولية من انهيارات في مناطق أخرى مختلفة كأمريكا اللاتينية في الستينيات من القرن الماضي، وآسيا في الثمانينيات وأوروبا بعد سقوط جدار برلين، ولما نضجت فكرة التغيير في نفوس وأفكار الجماهير العربية التي هبت لتنفيذها، لم يمنعها لا الخوف ولا الأنظمة القمعية من الخروج للتظاهر بالملايين في مختلف الميادين، متبنية بشكل براغماتي سلسلة من المفاهيم التي نحتتها المعارضة المدنية ببعض الدول كالإضرابات والاحتجاجات السلمية والمسيرات اللاعنفية والعصيان المدني..، وخاضت هذه الشعوب تجربتها التاريخية بعدما كانت تخاف حتى من التفكير فيها.
إن نجاح الاعتماد على القدرات الذاتية في إنتاج وإنضاج الثورة وتحقيق أهدافها يجعلنا نتساءل عن سبب غياب هذه القدرات الإبداعية عندما يتعلق الأمر بقيم ما بعد الثورة أو الحراك، هل الوعي بمحطات إسقاط الأنظمة وتفكيك قدراتها الرهيبة في التخويف والتنميط يغيب عندما يتعلق الأمر بإبداع آليات في تفكيك الثقافة الذاتية المنمطة، والتي تجعل الأفراد يقبعون خلف جدران الاستئصال والامتناع عن فتح أبواب التواصل وقبول اختلاف أطراف أخرى لتشاركهم ربما نفس الهموم ولكن من زاوية نظر مختلفة ومخالفة؟
تمكنت التقنية والإعلام من التسويق الجيد لمراحل الثورة ودفعت بشكل جيد بها نحو أفق التأجج لتشهد تحولات أفقية متسارعة، وغير منتظرة في كثير من الأحيان، مما جعل إمكانية إنضاج الكثير من مراحلها وقدراتها في استيعاب اللحظة الثورية، بعيد المنال، بل جعلت التقنية الكثير من المفاهيم مضمرة ومؤجلة بشكل غير مستحسن إلى ما بعد التخلص من الأنظمة الاستبدادية، ليكتشف الجميع أن التحول الواقع يحتاج إلى كثير من النقاش والتساؤلات العميقة، والعمل من أجل نحت خريطة طريق جديدة للخروج من أزمات متتالية أصابت الأنظمة الفتية؛ والتي فقدت في كثير من لحظاتها القدرة على المناورة أو الفعل، بسبب الفوضى والعودة بالنقاشات القهقرى بلا ناظم فلسفي أو قيمي، يجمع الجهود المتباينة لإرشادها وتنظيمها في دوائر توافقية متجانسة تقبل التوافقات ولو إلى حين.

وربما لعبت هنا الفئة المثقفة من الباحثين والكتاب دورا سلبيا لأن أغلب هذه الفئة غير مستوعبة لدورها الحقيقي، فلو تمكنت من وضع مشاريع قبلية جادة واستشراف الأحداث المستقبلية، بما امتلكته من مناهج وآليات تفسيرية واقعية، لما وقع الكثير من اللغط والقلق، ولما استفحل تكرار الأخطاء ولما انحرفت وجهة الاصلاح ومشاريعه، ولا تعددت على إرادة التغيير مداخل التحريف وحركات المغالاة والردة التي قادت نحو إحراق الذات بالعصبية المذهبية والنعرات الطائفية والعرقية بالشكل المأساوي والمقلق الذي نشهده اليوم. إن بناء ثقافة مجتمعية تقبل بالآخر لا تزال غائبة رغم كل هذا الحراك الثوري المشهود في عالمنا العربي.
إن التغيير في عالمنا اليوم لو حسم بلا وعي في الرجوع الانفعالي غير المستوعب لحركة التاريخ من أجل استحضار مفاهيم من قبيل الحرية والعدل والكرامة الإنسانية من تاريخنا القديم؛ لأوقعنا ذلك مرة أخرى في دوائر مغلقة ومحرجة، ولكررنا نفس التجربة التاريخية السلبية كما وعاها المتطرفون المعاصرون وسعوا إلى تنزيلها بشكل كاريكاتوري، ومن جهة أخرى، إن تبيئة المزيد من المفاهيم الغربية التي تناقض ثقافتنا وتحد من قدرتنا على الإبداع وتزكي فينا منطق التابع والمقلد، قد يزيد من تكريس أزمتنا بذواتنا وفهمنا للآخر وعلاقتنا به، وسيشكل شرارة متقدة قادرة على إحراق ما بقي من كرامتنا وهويتنا وأصالتنا في أية لحظة، وللأسف، فقد بدأ الحرق يمتد هنا وهنالك ليهلك الأخضر واليابس في غالبية هذه الأقطار العربية والإسلامية، خصوصا مع ما نشاهده من موجات العنف الديني كتفجير للمساجد وقتل للمدنيين، والعنف السياسي من إعدام للمعارضين، وما يطرأ من أحداث ومواقف غير متوقعة في الساسية الدولية كالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.