"سنلقي بكم في البحر"، هذا هو الشعار الأبرز الذي حمله العرب طوال الصراع العربي الإسرائيلي. ما يقارب سبعين سنة، وأكثر من 350 مليون عربي يهتفون أمام 8 ملايين إسرائيلي: "سنلقي بكم في البحر" منذ القدم، أي منذ زمن الخطابة العربية، سادت في الثقافة الشفهية الموروثة مقولة شهيرة تقول: تحدّث تعرف. ناهيك عن الطرح السقراطي القائل: تكلّم حتّى أراك. وبالنسبة إلى المتكلم في ما يعرف بعلم البيان يكون الكلام دائما صفة المتكلّم. وقد تعدّدت النتاجات البلاغية حول الثقافة الخطابية بالنسبة إلى المتكلّم والسامع معا.
ومع تطور النظريات النقدية في الحقبة البنيوية، مرورا بالتحليلية فالتفكيكية، وصولا إلى التوليدية، ظهرت أطروحات تحليل الخطاب، وتحليل الحديث والحوار، ونظريات التصدير والتلقي، وكلها اهتمت -شكلا ومضمونا- بفعل الأدبيات الخطابية، قبل أن تنحى منحى زمنيا لتلتقي بخطابات أخرى غير أدبية. ومع تطور رصيد الوعي الجماعي عند الجماهير، أصبح الهدف الرئيسي من هذه الخطابات المختلفة حول قضية فلسطين التعريف بالأوضاع المأساوية التي يعيشها الشعب الفلسطيني الأعزل في المحافل الدولية. لكن الجمهور العربي سقط، سواء بنخبته أو بعامته، في أتون حرب كلامية لا جدوى منها غير أنّها أصبحت ظاهرة صوتية كشعار "سنلقي بكم في البحر".
لقد أوصل العرب أنفسهم إلى محطّة يقف فيها المسؤول الإسرائيلي ليقول بالفم الواسع والضرس القاطع: إنّ خطابات بعض الزعماء والمثقّفين العرب اليوم تحمل تطوّرا كبيرا |
إنّ المتكلّم والمستمع، على حدّ سواء، والعلاقات التي تربط بينهما في سياقات خطابية معروفة ومتعددة، تتسم بالتوجّس والحذر على أساس ما سيقوله الأوّل وما سيفعله الثاني، لكنْ بعد أن أظهر العرب أنفسهم أنّهم أمّة خطابية، منذ عهد عنترة والشعراء القدامى، وصولا إلى بينات الشجب والتنديد والاستنكار، عرف الطرف الثاني، أي المستمع، أنّ الجمهور العربي، بشقّيه الرسمي والشعبي، أقصى ما يمكنه فعله هو الصراخ وإنتاج الشعارات السوفسطائية. بل لقد تطوّر الأمر إلى درجة تحويل المسار برمّته إلى ظاهرة فينومونولوجية تدرّس باعتبار المادّة الكلامية عند العرب لا تتجاوز المدّة الزمنية التي يقضيها الصوت في النطق بهذه الشعارات.
كما أن سعي تلك الدراسات الأكاديمية والنفسية والسياسية إلى دراسة الظاهرة الخطابية عند العرب، واقعيا وتجريبيا، حملها على الوقوف على طبيعة الخطاب أو اللغة المضمّنة ومقاصدها ووظائفها ومآلاتها.. بهدف الفهم والتفسير، ولمَ لا التقويم؟ نعم، التقويم، لقد أوصل العرب أنفسهم إلى محطّة يقف فيها المسؤول الإسرائيلي ليقول بالفم الواسع والضرس القاطع: إنّ خطابات بعض الزعماء والمثقّفين العرب اليوم تحمل تطوّرا كبيرا. ثمّ يستطرد متطاوسا: تطوّرا ايجابيا.
إنّ هذا السقوط المدوّي للنخبة العربية الذّي بلغ حدّ تبادل الغزل السياسي مع الكيان الصهيوني قد عرّى المنظومة المهترئة التّي تتّصف بها هذه النخبة أو ما يسمّى "النخبة". إنّ هذا التحيّل المعرفي لتسويق العمالة في مواقف هذه النخب قد بلغ حدّ القبول بالقدس عاصمة لإسرائيل بعد أن قبلوا ببيع القضية الفلسطينية مقابل دراهم معدودة أو للحفاظ على مراكزهم. كما برّروا عمالتهم بانكفائهم عمّا أصاب بغداد ودمشق واليمن، وصولا إلى مباركة حصار قطر الحبيبة. وطبعا، هذا كلّه بذريعة الطرح الجيوسياسي في لعبة المصالح وتوازن القوى. وهي التي فسّرت موقفها مسبقًا ضد الربيع العربي على أنّه مؤامرة أمريكية صهيونية، مقدّمين تصوّرا مفاده أنّ هذه المؤامرة الأمريكية تسعى إلى وصول الإسلام السياسي إلى الحكم لترسيخ فلسفة الفوضى الخلاّقة.

لكنْ بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب القدس عاصمة لإسرائيل سقط آخر قناع عن وجوه العملاء أو نخبة العملاء، بعدما شهدت العديد من الدول العربية تحولات ديمقراطية وليدة في مصر قبل الانقلاب، وتونس والمغرب وسوريا حتّى، على الرغم من آلة الحرب الوحشية. وقد واجهتها الثورة المضادة والتي تسخّر كلّ الوسائل المشروعة واللامشروعة لتسويق قرار ترمب على أنّه فرصة تاريخية للسلام، متناسين أنّ محور الصراع الأساسي قد وهبه ترمب للصهاينة، ألا وهو القدس، واجهتها بذريعة القلق على المكتسبات العلمانية ومدنية الدولة والخشية من أسلمة السياسة والمجتمع.
خلاصة القول: إن كان بالإمكان فعلا، في ظلّ هذه الظروف، أنّ نلخّص قولنا، إنّ النخبة في العالم العربي انحازت انحيازا مفضوحا إلى القوى المعادية للهوية والثقافة العربية. وما قرار ترمب إلاّ ذلك الماسح الضوئي الذّي يفرز الشهم من العميل. إنّ التيار الواسع من النخب العربية مطالب، اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، بتقديم كشف حساب لمواقفهم المتواطئة ورصد بيانات واضحة لتصفية الحساب مع المرحلة السابقة، حتّى يستقبل الجمهور العربي هذا في شكل حسن النوايا، إذ قال سلطان العلماء العزّ بن عبد السلام عندما هجم المغول على الأرض وهتك العرض: "من نزل بأرض وقد تفشّى فيها الزنا فأفتى بحرمة الربا فقد خان، فقد خان، فقد خان".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.