المتدين ضحية يفتك بها مرتين؛ ضحية لجبروت المتسلط، وضحية للشروحات ومرجعيات نقلت إليه من القرنين السابع والثامن الميلاديين بواسطة حكومات سلطوية تعززها عبر أبواقها الدعوية |
أو على الأقل هذا ما يتم إرفاقه مع فيديوهات المنابر الإعلامية لهذه الجماعات الدينية، أو تملأ به نشراتها الدعوية التي دائما ما ترفض الواقع وتنفي وجود الآخر، فالدين -كما يُقدَّم من خلال فتاوى مجتزأة- يعطي ملجأ لهذه الجماعات، ويحصّنها من النّقد، ويوفّر المادة اللازمة لإقناع كلّ أولئك المنهزمين من الواقع وصعوبة تحدياته بالحنين إلى الماضي البعيد؛ أي إنّ هؤلاء المريدين جاهزون مسبقا للاندماج والتفاعل مع هذه المواد والفتاوى.
فالعلاقة الثلاثية بين الدين والمتدين والسلطة لعبت دورا مهما في نشوب حروب وصراعات مفجعة ومطردة، ولازالت هذه الثلاثية تحكم شرقنا الأوسطي، وتفتته إلى كيانات طائفية دموية، فالحركات الشمولية الإيدلوجية لا ترى أي حق لصوت فكري في رأي أي جماعة أو حزب أو مفكر آخر لا ينتمي لهذه الإيدلوجية؛ مما يسهل استخدام هذه الحركات كأداة توجَّه بحسب الحالة التي تستوجبها المرحلة التاريخية، وطالما تعتبر هذه الحركات أن الحقيقة المطلقة في حوزتها هي قد ترفض التعاون مع أي طرف، وقد تقبل التعاون مع أي طرف، فالأمر سيان، مما لا يثير الدهشة عندما ترى جماعات إسلامية تتقاتل فيما بينها لأسباب لا تستوجب إثارة نزاع مسلح أو حتى احتكاك، بينما تجدها تجمد القتال في جبهات النظام الذي أثخن في جرائمه لحد تجاوز كل البشاعة.
عندما ترى الحركات الأكثر تطرفا تقاتل حركات تصفها بالمعتدلة (المرتدة) هذا كله يتم تغليفه بفكرة الفئة الناجية والتي يتوجب عليها احتكار الدين لذاتها، وفرضه كما تراه هي، فلا دين يخرج عن إطار تصوّرها. لنتساءل عن الدينامية التي حولت ذات النص من وحدة جامعة إلى أداة مفككة ومفتتة لتماسك الجماعة، بالتأكيد الجواب ليس صعبا، فالاختلاف والتباين في فهم النص -غالبا ما ينتج هذه الاختلاف في حقب زمنية مظلمة تسكنها الفتنة وتعشش في زواياها؛ مما يجعلها دائما محل نقاش إذا ما سلّط عليها الضوء، أو تمت مناقشتها في واقع أكثر واقعية واستقرار- أدّى لهذا التحول، هذا إذا سلّمنا فرضا أن العلاقة بين الدّين والمُتدين المفسّر لدين والممارس لتعاليمه لا تشوبها ضغوطات سلطوية أو أهواء دنيوية.
الدين مرجعيات ونصوص مقدسة يمارسها المتدين في ظاهرة اجتماعية بهدف توطيد السّلم والعدل، فنستطيع في هذه الحالة أن ننسب هذه الظاهرة الاجتماعية للدين. والمتدين هو وسيط بين المقدمة والنتيجة، ولكن ماذا لو كانت النتيجة ما نعايشه اليوم، ونكابده من حروب وتشرد وهزيمة لتطلعات الشعوب في العيش الكريم والانعتاق من العبودية. إن مما تتبناه الجماعات المتطرفة من فتاوى دينية كمرجعية لكل الجرائم المرتكبة بحق الإنسانية، قد تكون هذه الجماعات تجتزئ أو تقتطع ما يناسب أطماعها في السلطة، ولن أدخل في بيان الخطأ والصواب في كل تلك الفتاوى ولكن ما نريده النتيجة، فالفكرة وسدادها تقاس دائما بالنتيجة التي تؤدي إليها.
وأما المتدين ضحية يفتك به مرتين؛ ضحية لجبروت المتسلط، وضحية للشروحات ومرجعيات نقلت إليه من القرنين السابع والثامن الميلاديين بواسطة حكومات سلطوية تعززها عبر أبواقها الدعوية، وتستخدمها في وجه القوى الإصلاحية التي تريد أن تعود بالدين كوحدة جامعة من خلال فهم نصوص الدين وتفسيرها بشروح وتأويلات متوافقة مع حركية وزمانية الواقع.
فالقدرة الدينية الكامنة التي وحدت العرب، لابد من اكتشافها بروح العصر لتعيد لنا حريتنا وعزتنا المفقودة. قد يكون من المستحيل إنقاذ الدين الإسلامي الأول من الدين الإسلامي الذي طالما أنتج ليوافق سلطوية المستبد أو جاء كرد فعل على حقب تاريخية عانتها أمة الإسلام إلا بتفكيك العلاقة بين الدين والسلطة وإعطاء الحرية المطلقة للمتدين لإعادة اكتشاف ذاته، ثم اعتناق الدين الإسلامي الحنيف كم فهمه الصحابة الأوائل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.